تخيلت لحظة وأنا أشاهد خطاب أوباما، أنه لا ينقصه إلا أن يحمل غصن الزيتون في يمينه علي طريقة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الأممالمتحدة. كانت الخطبة، والزيارة برمتها حملة علاقات عامة محسوبة بدقة، وتأكدت من هذا الهدف منذ أول كلمة نطق بها أوباما في خطابه "السلام عليكم".. وقد خصص نصف خطبته للعالم الإسلامي لخدمة أهداف تلك الحملة، وعلي رأسها إنقاذ وإصلاح صورة الولاياتالمتحدة لدي العالمين العربي والإسلامي، بعدما تمرغت في الوحل، وتفاقمت ورطة الدولة العظمي من جراء الهزيمة العسكرية في أفغانستان والعراق، ومعها تضخم الديون من جراء الإنفاق علي ذلك الغزو الذي ذهب بالمنظومة الأخلاقية والقيمية التي كانت تدعي أمريكا زعامتها وريادتها لها، إضافة إلي أن الغزو لم يفلح في القضاء علي تنظيم القاعدة، بل زاد في تعرض مصالح الولاياتالمتحدة إلي التهديدات، كما لم يكسر شوكة إيران، وسوريا، ومعهما حزب الله، ولا أجهض حركات المقاومة في فلسطين ولبنان. وكان مهما لأوباما أن يمحي ذلك التاريخ الأسود بين بلاده والعالم الإسلامي.. والبداية باختراق المشاعر، وهو محام بارع، متدرب جيداً علي التأثير في "عقيدة" القاضي، كما تقول لغة المحامين. لذلك تسلح بالمعرفة كما ساعده مستشاروه في توجيهه إلي أقرب السبل العاطفية لتملك قلوب، قبل عقول، المستمعين إلي خطبته. فاستخدم 7 مرات آيات من القرآن الكريم، وبالمناسبة هذا الأسلوب وإن كان جديدا علي رؤساء أمريكا، لكنه أسلوب تقليدي في عالمنا العربي، حيث عادة ما يستخدمه رؤساء عرب، والمواطنون يعرفون جيداً تلك الديباجة في خطبهم، حيث عادة ما تقتصر الآيات والمواعظ الدينية علي المقدمة والخاتمة في خطب القادة العرب إلي شعوبهم. ونفس ذلك الاستخدام المكثف للآيات ينصح به أساتذة اللغة العربية تلاميذهم في امتحانات هذه المادة، فيحرص التلاميذ علي إقحام آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، إقحاماً مجحفاً ومخلاً في موضوعات الامتحانات، بهدف "انتهازي" وهو التأثير في عاطفة الأستاذ المصحّح، والغالبية العظمي من مدرسي اللغة العربية هذه الأيام "مسلمون سطحيون"، وهنا يكون "النفاق" في الامتحان بين المدرسين والتلاميذ بالتواطؤ المتفق عليه! وأوباما في هذا الامتحان كان أستاذاً وتلميذاً انتهازياً جداً مع العالم العربي والإسلامي. فوظف تلك الآيات توظيفا مزدوجا: التأثير في المستمع، العاطفي بطبعه، واستعادة صورة أمريكا لدي هذا المستمع بالتأكيد علي أن رأس السلطة في الولاياتالمتحدة الآن مقتنع، ومتأكد من إسهامات الإسلام والمسلمين في الحضارة الإنسانية. ولقي بذلك نفس رد فعل أستاذ اللغة العربية "المصحّح" عندما يسند "النمرة" النهائية للطالب قائلا في نفسه إنه أكيد متدين وابن حلال وحرام "أسقّطه"، أو أنقّص من "النمرة". هكذا تعلم أوباما الدرس من سابقه غير المأسوف علي شيخوخته "بوش"، وعرف كيف يأخذ بألباب السامعين، ليقنعهم بأن بلاده تبدأ صفحة جديدة من تصحيح العلاقات العربية الأمريكية، واستخدم نفس الوسائل التي تعشق الشعوب العربية والإسلامية الآن الاستماع إليها. وهناك تفاصيل أخري اهتم بها أوباما واختارها بعناية، وهو رجل التفاصيل الذي يتقنها واسألوا عن ذلك الانتخابات الرئاسية الأمريكية! تلك التفاصيل ذكرتها "التايمز" في عددها الأربعاء الماضي بقلم "أمير طاهري" وكتب أن أوباما اختار موعد الزيارة والخطبة علي أساس أن التاريخ المذكور يصادف ذكري بدء المعركة الأولي للإسلام في عهد الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - مع الدولة البيزنطية سنة 629 ميلادية، كما تتزامن أيضا مع ذكري وفاة زعيم الثورة الإيرانية آية الله الخوميني وتعيين علي خامنائي محله، كما يصادف ذكري بناء الكعبة التي دمرت خلال الحرب الأهلية بين المسلمين.. كما قال طاهري إن "مرافعة" أوباما خاطب فيها لأول مرة العالم الإسلامي بصفته كتلة واحدة، ولأول مرة يحدث ذلك منذ عهد نابليون بونابرت امبراطور فرنسا. تلك هي "النكهة التاريخية" التي بحث عنها أوباما بتدقيق وعناية كبيرة وذلك يعكس التحديد الشديد لإطار الرسالة وحتي تمرر إلي أوسع قاعدة ممكنة من جمهور العالم الإسلامي، وإن كان سلّم بذلك بالتقسيم الذي يتبناه بعض القوي التقليدية السياسية الإسلامية وفقاً للمعتقدات الدينية، وتلك "ضربة" لمن لا يؤمن خاصة من القوي العلمانية بخطأ تقسيم الانسانية حسب المعايير الدينية، كما أنها "ضربة" من جهة أخري لأحلام القوي الديمقراطية الناشئة في المنطقة، باعلانه تخلي الولاياتالمتحدة عن سياسة الرئيس السابق جورج بوش في نشر، بل وفرض "أجندة الديمقراطية والحريات" وهو قد أعلنها صريحة: "نعم هذه قواعد ومبادئ نؤمن بها، لكن لن نتدخل ونفرضها".