الدكتور محمود عبد الفضيل ليس مجرد أستاذ يقوم بتدريس الاقتصاد في الجامعة وإنما هو أيضاً مفكر اقتصادي، وكاتب صاحب قلم سلس يستطيع أن يتناول أعقد القضايا والمصطلحات الاقتصادية بأسلوب سهل وبسيط. كما يستطيع أن يبث في الأرقام الجامدة روحاً وحياة وأن يربط الدلالات الاقتصادية لهذه الأرقام باتجاهات الريح السياسية والاجتماعية. وكتابه الجديد "نواقيس الانذار المبكر"، الصادر حديثا عن "دار العين للنشر"، نموذج عملي لذلك كله. وهو كتاب صغير الحجم، كبير القيمة، يمثل محاولة جادة لدق نواقيس الانذار المبكر حول مستقبل الاقتصاد والسياسة والمجتمع في مصر قبل فوات الأوان. ويناقش ببساطة عدداً من القضايا الصعبة. حيث يعالج في الجزء الأول قضايا نظرية حول ملامح الفئات الرأسمالية الجديدة وأزمة الحراك الاجتماعي والسياسي الراهن. كما يعالج قضايا مهمة تشغل بال كل مصري مثل الخصخصة، والاستثمار الاجنبي المباشر، ومناخ الاستثمار، ومناخ العمل، والشائعات والتوقعات غير الرشيدة في مجتمعنا. بينما يناقش الجزء الثاني هموم وتحديات المستقبل في مجالات مهمة مثل دور الجامعة، ومحاربة سرطان الفساد. وينبهنا الدكتور عبد الفضيل من اول صفحة في كتابه إلي أن هناك تحديات كبري تواجه الاقتصاد المصري والإدارة المجتمعية خلال السنوات القادمة، وتحتاج لمزيد من الأمانة والشجاعة في التشخيص والبحث عن سبل العلاج القويم قبل أن تتفاقم تلك المشاكل وتصيب المجتمع والأمة في مقتل، لأن الاستخفاف بالمشاكل والتحديات الكبري التي تلوح في الأفق، والتركيز علي الحلول الآنية للمشاكل والمسكنات الوقتية دون علاج المشكلات من جذورها هو الطريق نحو مزيد من التدهور نحو الأزمة الشاملة في الاقتصاد والمجتمع. ورغم أن الجانب الأكبر من فصول هذا الكتاب مقالات تم نشرها في مجلة "المصور"، فإنها بترابطها معاً تعطي صورة مدهشة لأحوالنا. فهو يبدأ بوضع يده علي ملامح الفئات الرأسمالية الجديدة وسماتها. ودون استخدام لغة إيديولوجية زاعقة أو غير زاعقة يضعنا وجهاً لوجه أمام هذه الملامح. فنري أنها تعتمد في تمويل جانب مهم من أنشطتها الاقتصادية علي الاقتراض المفرط من القطاع المصرفي، والحصول علي "التوكيلات التجارية" من "الشركات دولية النشاط" لتسويق المنتجات الأجنبية، والاعتماد علي درجة عالية من "الاحتكار" في السوق المحلية تساعدها علي تحقيق أرباح احتكارية وغير تنافسية. كذلك فإن هذه الفئات غير منشغلة بقضية الاختراع والتجديد، ناهيك عن التجويد الذي يجعل السلعة قابلة للتصدير والتنافسية في الأسواق العالمية "باستثناء منتجات محدودة". أضف إلي ذلك ضعف جانب "المسئولية الاجتماعية" في مجمل نشاط بعض كبار رجال الأعمال. ولذلك فإنه ليس غريباً بالنسبة لمثل هذه الفئات الجديدة أن يكون أحد مجالاتها المفضلة الاندفاع الجنوني نحو الاستثمار العقاري. وهذا دليل علي خلل خطير في الاقتصاد المصري، خاصة أنه لا يسهم حقيقة في حل مشكلة الاسكان للفئات الوسطي والفئات محدودة الدخل، كما أن العقارات عادة ما أصبحت تستخدم للمضاربة أو التربح وليس لاضافة إلي الطاقات الانتاجية في الاقتصاد الوطني. وهذا هو أحد الفروق الجوهرية بين السلوك الاستثماري لبعض كبار رجال الأعمال في مصر وبلدان آسيا الناهضة حيث توجهت الفوائض الإدخارية لدي القطاعين العائلي والخاص في بلدان آسيا نحو القنوات الاستثمارية المنتجة والتصديرية فحققت أكبر قدر من النهوض الاقتصادي خلال حقبتين من الزمان فقط. لكن الأخطر من ذلك كله هو مدي مشروعية كثير من الثروات وآليات الثراء السريع حيث يتحول فرد رقيق الحال إلي مليونير بين عشية وضحاها وبسرعة البرق نتيجة ازدهار اقتصاد "الصفقات" و"العمولات" وبعض الممارسات الاحتكارية الفاسدة. وهنا تكمن إحدي المشاكل الجوهرية التي تواجه مجتمعنا وتضعف معنوياته، حيث ينفصم "العائد" عن "الجهد"، وتضيع المعايير التي تحكم الخطوط الدقيقة الفاصلة بين "الحرام" و"الحلال". ولكن الجدير بالتأمل في حالة مجتمعنا كما يقول الدكتور عبد الفضيل هو خطر اتساخ الأموال الذي يمتد إلي الأموال النظيفة لكي تصبح أقل بياضاً وأكثر رمادية. وهكذا تصبح الثروات الجديدة خليطا من "المشروع" و"الممنوع" أو "الأبيض" و"الأسود"، وحيث إغراء الكسب السريع يدغدغ مشاعر الجميع، وحيث تطغي "المغانم الخاصة" علي حساب "المنافع العمومية". وعندما تكون هذه هي ملامح تيار مؤثر في الاقتصاد في الوقت الراهن فإنه من الطبيعي أن تنعكس تأثيراتها علي البنية الفوقية للمجتمع. وعلي حد التعبير البليغ للدكتور محمود عبدالفضيل فإن الناظر علي حال المجتمع المصري من خارجه يكاد يخيل له أن هذا المجتمع يسير بخطي بطيئة، وكأن أرجله "موضوعة في الجبس" نتيجة عدم ضخ دماء جديدة في عروقه وشرايينه لسنوات طويلة. ولعل التجديد الوحيد الذي حدث كان علي مستوي نخب رجال الأعمال حيث برزت علي السطح نخبة جديدة من "رجال الأعمال" دون "سيرة ذاتية" معروفة، باستثناء القلة القليلة. وهذا كله يقودنا إلي "المأزق المزدوج" الذي يعاني منه المجتمع المصري حالياً علي النحو التالي: علي الصعيد السياسي: إصرار الحزب الحاكم علي الاحتكار الكامل للسلطة من ناحية، وعدم قدرة القوي السياسية الأخري علي تجديد كوادرها وبرامجها عن ناحية أخري. وعلي صعيد حركة المجتمع: نجد أن الطبقات الرئيسية الثلاث في المجتمع قد لحقت بها تحولات وتشوهات جوهرية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. فبالنسبة إلي الطبقة العليا نجد أنها تزخر بالأغنياء الجدد، الذين جاءت ولادتهم "غير طبيعية" في عصر النفط والعولمة، ودون رصيد تاريخي يذكر، بما لا يقارن بسابقتها التي كانت مستندة علي أرضية إنتاجية صلبة تقوم علي ملكية الأرض إذ كون معظم الأثرياء الجدد ثرواتهم من خلال مجالات التداول والوساطة والمقاولات، ومن خلال العلاقة برأس المال الأجنبي، وليس من خلال التراكم الانتاجي الإنمائي، علي نحو ما فعلت رأسماليات في بلدان نامية أخري. وعلي صعيد الطبقة الوسطي نجد أن هذه الطبقة التي شكلت العمود الفقري لنهضة المجتمع المصري منذ ثورة 1919 قد ترهلت وتشرذمت وفقدت جانبا كبيراً من قوة شكيمتها وكبريائها وأصبحت طبقة منهكة تعيش وضعا معنويا وماديا مؤلما. وعلي صعيد الطبقات الشعبية نجد أنها تعاني منذ نهاية السبعينيات في عمليات مستمرة للتهميش الاجتماعي والبلبلة الفكرية وتعدد سبل العيش التي تصل أحياناً إلي حد "تسول الرزق" والتحايل علي الحياة اليومية. ولهذا فهي تعاني من التوظف غير المنتظم ومن فقدان الاتجاه، بل لقد تحولت أعداد كبيرة منها لتكون مستودعا للبلطجة والعنف. وكل هذه المظاهر لها انعكاساتها علي مسار العملية السياسية خلال السنوات الماضية، كما ظهرت انعكاساتها بوضوح في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب. إذ شهدت انسحاب الطبقة الوسطي وانصرافها من المشاركة في العملية الانتخابية، وصعود نفوذ المال، وانتشار عمليات البلطجة بالاستناد إلي مستودع البطالة والفقر في البلاد. وهذا لا يفسر فقط معضلات الماضي والحاضر وإنما يدق أيضاً أجراس الانذار المبكر حول مستقبل السياسة والاقتصاد والمجتمع في مصر المحروسة التي يجب أن نتنبه لها قبل أن تقع الفأس في الرأس. [email protected]