هذا عدد جديد من تقرير "الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية" الذي يصدر للسنة السادسة عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، ويرأس تحريره الزميل أحمد السيد النجار. وكما تعودنا في الأعوام الخمسة الماضية استمر هذا التقرير المحترم في الحفاظ علي موضوعية البحث العلمي والابتعاد عن التلاعب السياسي بالأرقام. وتلك سمة نادرة، فضلاً عن انها مفيدة بصورة جعلت "النجار" يعرب عن أمله في أن يكون التقرير مساعداً علي تلبية احتياجات الجماعة البحثية والسياسية والثقافية العامة للدراسات الاقتصادية العلمية التي تستهدف الوصول للحقيقة وتستخدم العلم لتحليلها من أجل تحقيق مصلحة الوطن كهدف أسمي لكل من يستحق شرف الانتماء لهذا الوطن الجميل. هذا التقرير الجاد يقدم بانوراما لحالة الاقتصاد عام 2006 في العالم عموما، وفي منطقتنا وبلدنا خصوصاً. والملامح الرئيسية لهذه الصورة يمكن اختصارها علي النحو التالي: عالمياً: حقق الاقتصاد العالمي ثاني أعلي مستوي لمعدل النمو الحقيقي للناتج العالمي في عام 2006 بعد النمو الأقوي الذي تحقق عام 2004. وهذا النمو تحقق بفضل عدة عوامل، أهمها: * القاطرة الصينية والآسيوية التي تقود الاقتصاد العالمي مدفوعة بمعدلات استثمار بالغة الارتفاع، خاصة بعد أن دخلت الهند بعد الصين درب النمو السريع. * النمو في الدول المصدرة للنفط الذي ارتفعت أسعاره بشكل مطرد بداية من عام 2003 وحتي الآن. * النمو السريع في دول شرق أوروبا التي التحقت بالاتحاد الأوروبي أو التي تمكنت من إعادة هيكلة اقتصاداتها. وتشير التوقعات إلي أن معدل نمو الناتج العالمي سوف يستمر مرتفعاً، وستستمر الصين ومعها الدول الناهضة في آسيا كمحرك رئيسي للنمو الاقتصادي العالمي، بينما سيتراجع النمو الاقتصادي المتوقع في الدول الصناعية المتقدمة وفي الدول المصدرة للنفط. الملمح الثاني للاقتصاد العالمي هو أن عام 2006 شهد تراجعا طفيفا لمعدل التضخم في الدول النامية مقابل ارتفاع محدود للمعدل في الدول المتقدمة. الملمح الثالث هو تزايد تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة بقوة بنسبة 3.34%. وبصفة عامة تزايدت حصة الدول النامية في استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من المستثمرين من البلدان الأخري، وأيضاً في ضخ الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلي البلدان الأخري. *** وإقليمياً كانت الحرب الإسرائيلية علي لبنان هي أبرز ملامح الصورة خلال عام 2006. وقد جعلت هذه الحرب وتأثيراتها الاقتصادية صندوق النقد الدولي يغير تقديراته للنمو والتضخم في لبنان عام 2006. وعلي الصعيد الإقليمي أيضاً أصبحت الاستراتيجية الإيرانية الشاملة إزاء المنطقة العربية أكثر وضوحاً.. وهي استراتيجية يصفها التقرير بأنها "أخطر تهديداً من أي وقت مضي" دون أن يوضح لنا أسباب أو أبعاد هذا التهديد، ويتنبأ بأنها ستؤثر علي الاقتصادات العربية من خلال ما ستؤدي إليه من تغيرات في البنية السياسية والأمنية في البلدان العربية. وعلي العموم فإن مقدمة "النجار" للتقرير تضمنت نغمة صريحة حينا، وضمنية أحيانا، معادية لإيران. والمشكلة أن هذه النغمة افتقرت إلي البراهين والمسوغات مما أفقدها مصداقيتها. إلي حد ما، بينما كان المطلوب من تقرير محترم كهذا أن يبين مكامن الخطر الإيراني علي العالم العربي مع وضع الخطط الأمريكية والإسرائيلية إزاء الشرق الأوسط أيضا في الاعتبار. والملمح الثالث للوضع الإقليمي هو ما شهدته المنطقة العربية من طفرة في الناتج المحلي الإجمالي، وتحسن معدل النمو، وكل ذلك مرتبط بارتفاع أسعار النفط بينما استمرت التحديات الرئيسية التي تواجه الاقتصادات العربية ممثلة في تدني الناتج ومتوسط نصيب الفرد منه وتبعيتهما لأسعار النفط وتخلف هياكل الاقتصادات العربية وتذبذب معدلات الادخار وتدني معدلات الاستثمار وارتفاع معدلات البطالة وضغوط الموارد المائية المحدودة والقادمة من خارج الوطن العربي بصورة أساسية، والتخلف العلمي والتكنولوجي، وتفاقم الديون الخارجية للدول العربية المدينة، واستمرار نزيف الأموال العربية للخارج. باختصار.. الاقتصادات العربية حالتها لا تسر بأي معيار! وفي سياق هذه التطورات التي شهدها الاقتصاد العالمي واقتصادات الإقليم.. يأتي الدور علي الاقتصاد المصري. وبهذا الصدد يدخل "النجار" إلي الموضوع مباشرة دون لف أو دوران ليستنتج أن الاقتصاد المصري الذي استفاد من تحسن أسعار النفط وتزايد تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر "مازال يعاني مستوي بالغ الارتفاع للفساد، وبالذات في برنامج الخصخصة، وفي قطاع الصحة". و"مازالت مصر تعاني أيضاً من تضارب البيانات الرسمية بشأن الأداء الاقتصادي المصري. هذا التضارب الذي يجعل كل هذه البيانات محل شك". كما استمرت أيضاً السياسات الاقتصادية التي يدار الاقتصاد المصري علي أساسها، معنية بمصالح الطبقة العليا من كبار رجال الأعمال، بينما تتدهور حصة العاملين من القيمة المضافة، التي يقومون هم بخلقها علي نحو درامي، كما تراجع سعر الفائدة بغرض انعاش الاقتصاد المصري من خلال تشجيع الاستهلاك المحفز للتوسع في الاستثمارات القائمة وبناء استثمارات جديدة وتشجيع رجال الأعمال علي الاقتراض بأسعار اقراض منخفضة لتمويل بناء مشروعات جديدة تؤدي لزيادة الناتج وإتاحة فرص عمل جديدة. وبرغم صحة هذه السياسة النقدية نظريا فإن فعالياتها تتوقف علي قدرة الإدارة الاقتصادية علي السيطرة علي التضخم. وهي فشلت في ذلك فعليا كما تدل علي ذلك مؤشرات التضخم. كما تتوقف فعالية هذه السياسة النقدية علي سلوك طبقة رجال الأعمال، وكفاءة الجهاز المصرفي في إدارة عملية منح الائتمان. لكن "النجار" يري أن السلوك العملي للكثيرين من رجال الأعمال في الوقت الراهن، والذي يركز علي الربح من خلال الاستيراد.. والتوزيع الداخلي لسلع منتجة في الخارج، أو تجميع مكونات مستوردة، أو عدم احترام المواصفات القياسية حتي في السلع المتعلقة بحياة البشر وصحتهم، أو الرغبة في الاستيلاء علي أموال البنوك والهرب بها للخارج، يفقد هذه السياسة النقدية جزءا مهما من فعاليتها الممكنة لو كانت هناك طبقة رجال أعمال من نوع مختلف. كذلك فإن محدودية كفاءة الجهاز المصرفي في إدارة الائتمان والتركيز علي الضمانات الورقية وليس متابعة وإنجاح المشروعات الممولة من البنوك، والتركيز أيضا علي شراء سندات وأذون الخزانة والاكتتاب في الشركات العامة والمشتركة، يحد من قدرة هذا الجهاز المصرفي علي التوظيف الفعال للسياسة النقدية التوسعية المتمثلة في خفض أسعار الفائدة. وقد نتج عن انخفاض أسعار الفائدة، وارتفاع معدل التضخم عنها، أن أصبح سعر الفائدة الحقيقي في مصر علي الودائع المصرفية سلبياً، وهو مؤشر خطير يدفع المدخرين الذين يفتقدون الثقافة الاستثمارية إلي التخبط بين الاندفاع إلي مجال الاستثمار العقاري السهل نسبيا مما أدي إلي رفع أسعار الأراضي والعقارات بصورة مبالغ فيها للغاية عام ،2006 ويدفعهم أيضاً إلي الاستثمار في البورصة بدون خبرة ليكونوا نهبا لتحايل الكثير من شركات السمسرة التي تتواطأ لصالح مستثمرين مميزين علي حساب صغار ومتوسطي المستثمرين. كما عادت ظاهرة شركات توظيف الأموال للظهور. وهي عودة "منطقية" في ظل سعر الفائدة السلبي والمنفر من الادخار في الجهاز المصرفي. وما أشبه الليلة بالبارحة، فظاهرة شركات توظيف الأموال القديمة التي ارتدت ثوبا دينيا ودمرت الاستقرار الاقتصادي لفترة، ظهرت وتوحشت حينما أصبح سعر الفائدة سلبيا خلال ثمانينيات القرن العشرين، وهو ما يؤكد من وجهة نظر النجار أن هذه الفائدة السلبية أحد الأسباب المهمة لنشوء وتطور هذه الظاهرة الخطيرة. ونواصل القراءة في تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الاثنين القادم.. إذا كان في العمر بقية.