في واحدة من المناطق التي لا تبعد كثيرا عن قلب العاصمة البريطانية المعروفة باسم "ويست اند" وعلي مسافة لا تزيد علي بضعة مبان من أحياء بيكاديللي سيركس واكسفورد سيركس ومربل ارش وكوفنت جاردن غزا عشرات الاَلاف من المهاجرين الروس هذه المنطقة التي أصبحت تضم عددا كبيرا من المتاجر والمقاهي التي تحمل أسماء روسية تمثل تجمعا لهؤلاء المهاجرين الذين بلغ عددهم الاَن 300 ألف مهاجر من الجمهوريات السوفييتية السابقة، ثلثهم وصل إلي عاصمة الضباب في العامين الماضيين فقط تراودهم أحلام وطموحات عريضة لتحقيق الثراء والبحث عن سبل أفضل للعيش في أهم عاصمة أوروبية في العالم الغربي. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن هذه المنطقة والأحياء المحيطة بها كانت حتي وقت قريب ومازالت معقلا لما يسمي بالمتشددين الإسلاميين حتي للجاسوس الروسي العميل السابق ل "كي جي بي" أو المخابرات السوفييتية في عهد الستار الحديدي الكسندر ليفنينكو الذي تم تسميمه في ظروف غامضة واتهم قبل وفاته وعلي فراش الموت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقتله، وتحوله إلي الإسلام علي فراش الموت في مفاجأة من العيار الثقيل. والمثير للدهشة أن هذا المربع يضم عددا كبيرا من العصابات الروسية المنظمة الذين تربطهم صلات بجواسيس لايزالون في الخدمة واَخرين سابقين فضلا عن منشقين سابقين هربوا من جحيم الاتحاد السوفييتي السابق، والأغرب مئات من أغني رجال الأعمال الروس في توليفة مثيرة تطرح كثيرا من التساؤلات عن علاقة الجواسيس والمنشقين ورجال العصابات برجال الأعمال. وقبل أقل من شهر فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي تحقيقا حول إمكانية تورط عدد من عتاة المافيا الروسية بصفقات مريبة للغاز في إشارة واضحة إلي وجود دائرة تربط بين هذه العناصر جميعا والهدف طبعا تحقيق الثراء الفاحش بطرق غير مشروعة تحت سمع وبصر كثير من الحكومات التي يحظي بعضها باحترام العالم وهو ما يفتح بدوره ملفا اَخر بالغ السرية عن علاقة السلطة بهذه الأطراف المشبوهة. ولا يمكن قطعا القول بأن كل المهاجرين الذين جاءوا من الجمهوريات السوفييتية السابقة ينخرطون في أعمال إجرامية، فكثير من البسطاء الذين جاءوا من خلف جبال الأورال للبحث عن لقمة العيش للعمل في المطاعم والملاهي الليلية ونوادي القمار والمتاجر. وكما تشير صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية أو تزعم فقد ارتبط العرب في السبعينيات واليابانيون في الثمانينيات والروس في التسعينيات بالعصابات الإجرامية المنظمة، ورغم النظرة الدونية للمجتمع في روسيا تجاه هذه العناصر الإجرامية ربما للتأكيد علي عدم وجود علاقة للدولة بالسلوكيات الإجرامية في عهد الرئيس بوتين بل إن الكثير منهم علي قوائم الممنوعين من العودة أو المترقب وصولهم أو مطلوبون للعدالة، إلا أنهم يحظون بحرية الحركة والتنقل والعمل بحرية في لندن وهي قضية أخري تضع بريطانيا مجددا في دائرة الشكوك بشأن دورها في إيواء مثل هذه العناصر وما إذا كان الدافع علي ذلك هو جذب رؤوس الأموال بصرف النظر عن مصدرها. فمن قبل كانت معقلا لما يسمي بالإرهابيين الإسلاميين أمثال أبو حمزة المصري وأبو حفص وغيرهما وهاربين من العدالة في بلدانهم مثل صاحب العبارة المصرية التي غرقت مؤخرا قبالة سواحل جدة وعشرات من رجال الأعمال الهاربين بثروات طائلة تحصلوا عليها من البنوك وتحميهم سماء العدالة البريطانية "العمياء" وترفض تسليمهم إلي بلدانهم وتفتح أذرعها بحفاوة لأموالهم القذرة في الوقت الذي تمثل المملكة المتحدة ثاني أكبر ضلع في التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب. وهذا الخليط المذهل له ما يفسره فكما يقول أحد أصدقاء الجاسوس الروسي ليفنينكو فإن كل شيء مباح في لندن خصوصا فيما يتعلق بالبنوك رغم وجود قوانين شأن كل دول العالم تمنع غسل الأموال ويضيف أن هناك مرونة لفعل كل شيء مع البنوك في لندن أي إن كلمة السر لاجتذاب المجرمين والجواسيس والهاربين من العدالة والإرهابيين هي البنوك التي لا تدقق كثيرا في مصدرها. ولا تبعد العاصمة البريطانية لندن عن موسكو بالطائرة أكثر من ثلاث ساعات ونصف الساعة ولذلك ليس غريبا أن ينتقل بعض الأثرياء الروس إلي لندن لقضاء نهاية الأسبوع والعودة مع نهايتها إلي بلدهم، وأغلبهم ينتمون إلي الطبقة المتوسطة العليا القادرة علي شراء شقق بقيمة مليوني دولار أو أكثر وليس هناك قيود في روسيا علي حمل أموال سائلة وكل ما يستدعيه الأمر هو حقيبة بلاستيكية. ويثير الغزو الروسي للندن علامات استفهام كثيرة فعلي سبيل المثال بلغ عدد الروس الذين اشتروا منازل بقيمة 15 مليون دولار أو ما يزيد ربع إجمالي من قاموا بشراء هذه المنازل في العام الماضي فقط وفقا لما قاله سمسار عقاري يدير شركة في لندن، واشتري مواطنون روس حوالي 60% من إجمالي المنازل باهظة الأسعار التي بيعت في العام نفسه ويزيد علي 20 مليون دولار. ومع تدفق كل هذه الأموال إلي لندن تغير كل شيء من المفاهيم إلي اللغة المستخدمة في المطاعم والمتاجر. ولا يمر أسبوع دون تنظيم حفل أو أكثر للاحتفاء بشخصيات روسية ويتم فيه تقديم وجبات باهظة التكاليف والاستعانة بأشهر نجوم الغرب في الغناء والموسيقي وملكات الإغراء اللاتي يقمن بتقديم فقرات بالغة السخونة. وبالقطع يثني الأغنياء الروس علي حرية التعاملات المالية في لندن ويستفيدون من الإعفاءات الضريبية علي من يقضون فترات طويلة خارج بريطانيا فيما يشعر المنفيون والمنشقون بالحرية السياسية وحرية التعبير. وتضم قائمة العناصر المشبوهة أعدادا كبيرة من الإرهابيين والجواسيس السابقين الذين يرون جاذبية في لندن لكون انجلترا هي أكثر الدول حرية في أوروبا. وتغلل الروس في المجتمع الانجليزي بشكل دراماتيكي، ففي عام 2003 اشتري رومان إبراموفيتش وهو من أغني أغنياء روسيا نادي تشيلسي البريطاني العريق مقابل 233 مليون دولار وهو مبلغ ضئيل مقارنة بثروته التي تقدر بحوالي 20 مليار دولار ومنذ ذلك الحين وحتي الاَن أنفق إبراموفيتش 900 مليون دولار لشراء لاعبين وتدعيم النادي الذي يطلق عليه بعض اللندنيين بتهكم الاَن "شيلسكي" إشارة إلي اسم صاحبه. وحطم إبراموفيتش الرقم القياسي الذي صرف علي نادي "نيويورك يانكيز" لرياضة البيسبول كرة القاعدة. والمعروف أن أغلب الانجليز الأصليين هجروا لندن إلي الضواحي والريف والمدن الانجليزية الأخري بعد أن صارت مدينتهم العريقة معقلا للمهاجرين ورجال العصابات المنظمة والإرهابيين والجواسيس. والسؤال الذي يطرح نفسه: أين الحكومة البريطانية من كل ما يحدث في واحدة من أعرق مدن أوروبا؟ ولماذا تستمر بسياستها في حماية كل الهاربين من العدالة تحت مسمي الحرية؟ والتساؤل الأهم: هل هناك تحالف غير معلن بين الفساد والأموال القذرة من جانب والسلطة من جانب اَخر؟