عندما تتمكن جزيرة صغيرة، لا يزيد إجمالي عدد سكانها عن 840 ألف نسمة، أن تجتذب سياحا يزيد عددهم علي ثلاثة أضعاف عدد السكان (2.6 مليون سائح). وعندما تتمكن هذه الجزيرة من ان تحتل مرتبة متقدمة في قائمة التنمية البشرية التي تصدرها الأممالمتحدة وتضعها في خانة الدول مرتفعة الدخل. وعندما تتمكن هذه الجزيرة من ان ترتفع بمتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي الي 19 ألف يورو في السنة. وعندما تتمكن هذه الجزيرة من ان تفعل ذلك كله ليس فقط رغم ضآلة عدد سكانها، وصغر حجم سوقها، وانما ايضا رغم خضوعها لأزمة سياسية لا يستهان بها من جراء احتلال 37% من مساحتها منذ عام 1974 حتي الان، وما يترتب علي هذا الاحتلال المصاحب لانقسام سكان الجزيرة طائفيا بين قبارصة يونانيين وقبارصة أتراك.. فلابد ان هناك سرا كامنا خلف هذه النجاحات الاقتصادية الاستثنائية. فما هو سر قبرص، تلك الجزيرة التي تقول الأسطورة الشائعة والسائدة انها مسقط رأس إلهة الحب والجمال ذائعة الصيت أفروديت؟ حاولت الامساك بالخيوط التي يمكن ان تؤدي الي الاجابة عن هذا السؤال خلال رحلة خاطفة الي قبرص هذا الاسبوع قابلت خلالها وزير التجارة والصناعة والسياحة انطونيس ميخاليديس، ومدير التجارة بالوزارة اندرياس سوفوكليس، والمدير العام لاتحاد البنوك التجارية القبرصية الدكتور ميخائيل كماس، ومدير التسويق بهيئة السياحة القبرصية خرستوس موستراس، والمسئولة عن قطاع الاستثمار الاجنبي في وزارة التجارة السيدة نيللي كوليا، ومدير الطاقة بالوزارة صولون كاسينيس، والمدير العام المساعد لاتحاد الصناعات وارباب العمل اندرياس كريستو فيديس، والامين العام لغرفة التجارة والصناعة القبرصية بنايوتيس لويزيدس، ورئيس رابطة البيزنس المصرية القبرصية اندرياس كريستوفيديس. ومن خلال آلاف الارقام وآلاف التفاصيل التي انتجتها ساعات متصلة من الحوار مع هذه الشخصيات الحكومية وغير الحكومية.. وتأمل تفاصيل الحياة اليومية للناس العاديين مثلي ومثلك.. وجدت ان بداية الخيط هي نفسها الموجودة في معظم التجارب الناجحة في سائر قارات الدنيا. هذه البداية تتمثل باختصار في التعليم. بحيث نستطيع ان نقول "اعطني تعليما جيدا أعطيك اقتصادا متقدما". وبهذا الصدد نجد ان قبرص - تلك الدولة الصغيرة سوقاً وسكاناً - تحتل مكانها بين اوائل بلدان العالم من حيث عدد الحائزين علي شهادات جامعية بالنسبة الي عدد السكان، وتوضح الارقام بهذا الصدد ان 70% من خريجي التعليم الثانوي يواصلون تعليمهم الجامعي ونصف خريجي المدارس الثانوية يتلقون دراستهم الجامعية خارج البلاد، وبالذات في اليونان (53%) وانجلترا (23%) والولايات المتحدةالامريكية (14%). اما الجامعة القبرصة فتقبل صفوة خريجي المدارس الثانوية ومستوي التعليم بها محترم جدا. هذه النوعية من التعليم الجامعي وما قبل الجامعي هي الاساس في هذه النقلة الكبيرة التي حققتها قبرص رغم التحديات الكثيرة التي تواجهها محليا وإقليميا. وهي نفس الحقيقة التي "اكتشفناها" من قبل في المعجزة الآسيوية بماليزيا وغيرها من "النمور" التي بح صوتنا في التشديد عليها من اجل اصلاح نظام تعليمنا المنهار. العامل الثاني وراء التجربة القبرصية هو الديمقراطية.. فبعد سنوات من النضال من اجل التحرر الوطني الذي تم تكليله بالحصول علي الاستقلال عام 1960، وبعد اضطرابات كثيرة، سياسية وطائفية وعرقية في بلد تتنازعه الثقافة اليونانية والثقافة التركية، استطاعت الجمهورية القبرصية ان تخطو بثبات نحو نظام ديمقراطي واضح الملامح وراسخ الدعائم يضمن تداولا سلسا للسلطة، ويضمن قدرا عاليا من الشفافية، ويتيح للمدن والقري ادارة بلدية منتخبة تمثل القاعدة العريضة والجماهيرية لهذا البناء الديمقراطي. وبعيدا عن الكلام النظري والشعارات العمومية.. شعرت بحضور هذه الديمقراطية من خلال مشاهدات تبدو تافهة، وليس فقط من خلال المظاهر الاساسية لنظام الحكم. من هذه المشاهدات انني بعد المقابلات الرسمية دعاني احد المثقفين اليساريين علي العشاء في نادي الحزب التقدمي للشعب العامل "أكيل". وبينما كنا نتجاذب اطراف الحديث في دردشة ودية علي العشاء جاءته مكالمة علي تليفونه المحمول، فسألني عما اذا كنت امانع ان ينضم الينا وزير الداخلية؟! قلت له: وهل يحضر وزير الداخلية الي هذا النادي المتواضع لذلك الحزب التقدمي اليساري؟! فأجابني ببساطة لا تخلو من الدهشة: ولماذا لا.. انه صديقي الشخصي.. فضلا عن انه ابن الحزب، وقد احتل منصبه كوزير للداخلية بناء علي خلفيته السياسية واستنادا الي النتيجة التي احرزها الحزب في الانتخابات البرلمانية الاخيرة؟!