كشفت ندوة مكتبة الاسكندرية عن "الشفافية ومحاربة الفساد في قطاع الصحة" عن أمور بالغة الأهمية والخطورة.. في مقدمتها أن الفساد في هذا القطاع الذي لا يفلت إنسان واحد من التعامل معه من المهد إلي اللحد، كبير ومتغلغل وله ألف رأس ورأس، ولكل رأس ألف حيلة وحيلة. وأن المجتمع كله، بجميع طبقاته وفئاته، يدفع ضريبة هذا الفساد المستشري، من ماله ومن صحته وربما من عمره وحياة بعض أبنائه أيضاً. وأن هذه الضريبة الباهظة تؤثر بالسلب علي الاقتصاد الوطني وتؤدي إلي تدهور الانتاجية. وان الفساد في قطاع الصحة ليس مبتوت الصلة بالفساد في القطاعات الأخري، وإنما تترابط مجالاته وأشكاله المختلفة بروابط وثيقة، وشعاره هنا وهناك "شيلني وأشيلك". والجديد .. بالنسبة للفساد في قطاع الصحة أن الوزير المسئول عن هذا القطاع لا يدفن رأسه في الرمال أمام فضائح الفساد، وإنما يعترف بوجودها، ويعلن تصميمه علي التصدي لها، ويطلب من الصحافة أن تساعده في الكشف عن المتورطين فيها، ويقول دون لف او دوران أن الفساد لا يعالج إلا بالصراحة والشفافية. ثم أنه لا ينظر إلي هذا الفساد المفتري علي أنه مجرد آفة لا أخلاقية - وهو كذلك بكل تأكيد - بل أنه ظاهرة لها أبعادها التشريعية، والإدارية، والاقتصادية ، والمالية ، والثقافية ، والاجتماعية. ويضع كل واحد من هذه الأبعاد علي مائدة التشريح، ليس بهدف التوصيف فقط وإنما أيضاً وأساسا بهدف العلاج والاستئصال علي المدي البعيد علي النحو الذي رصدناه في المقالات السابقة. والأهم أن وزير الصحة الدكتور حاتم الجبلي لم يزعم احتكار الحكمة أو امتلاك الحقيقة المطلقة، بل استمع باهتمام إلي مقاربات ومداخلات كوكبة من الباحثين والخبراء والمفكرين الذين ينتمون إلي تخصصات متنوعة ومتكاملة. وفي الحقيقة فان اسهام المشاركين في ورشة عمل مكتبة الاسكندرية لم تكن أقل أهمية من أولئك الذين تقدموا بأوراق وجلسوا علي المنصة. بل أن القاعة كانت هي "البطل" الأساسي في هذه الندوة. واستمعنا فيها إلي آراء ثاقبة وحكيمة ومتبصرة، مثل تلك التي وردت علي لسان الدكتور ابراهيم بدران، والمستشار عبدالعزيز الجندي، والدكتور عبدالمنعم عبيد، والدكتور احمد حسن خليل، والدكتور محمود خيال، وانيسة حسونة، ومحمد الأشقر، والدكتور بدوي لبيب، والمستشارة سامية المتيم، والدكتور أحمد الصاوي، وزميلنا المتألق نبيل عمر، والدكتور أحمد ثابت، والدكتور رءوف حامد ، والدكتورة سلوي دواره ، والدكتور محمد حسن الحفناوي، والدكتورة هدي زرقانه، والدكتور ياسر سعد الدين، وبدر حلمي رزق الله، والدكتور أحمد سليم .. وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم. ويبدو من إصرار هذه الأسماء الكبيرة علي المشاركة في الحوار مع المنصة، الاهتمام الاستثنائي بتلك القضية الشائكة، وتنوع الاجتهادات حول سبل الاشتباك معها. ولا شك أن التفاعل بين آراء هذه الكوكبة المتميزة يمكن أن يثمر أفكاراً خلاقة إذا ما تم النظر إليه بجدية. وعلي سبيل المثال فان الدكتور محمد الجوادي قدم ورقة ترتكز علي ثلاثة اتجاهات: الأول- الاعتراف بالعوامل المهيئة للفساد .. مثل: 1- اضطراب هيكل الاجور الحكومية والخاص كميا وتنظيميا. 2- اضطراب وتشويه العلاقة بين المالك والمستأجر مما ينعكس علي اقتصاديات تشغيل المنشآت الطبية الصغيرة. 3- ضياع مبدأ الولاء للمؤسسة الطبية في ظل اعتماد المؤسسات الطبية الخاصة علي كوادر تعمل أصلاً في مؤسسات حكومية كالصحة والجامعات والقوات المسلحة .. الخ. 4- غياب قيمة العلم والبحث العلمي في العمل الطبي. 5- افتقاد منطق تقييم الكفاءة إلي الدينامية والمعاصرة . 6- انتهاء عصر شيوخ الصناعة وما يمثله ذلك من ضمان لأداء مهني متميز وملتزم بالقواعد العلمية والعينية. 7- تراجع مكانة الطب والأطباء في الكيان الاجتماعي. الاتجاه الثاني : الاعتراف بأهمية اللجوء إلي وسائل علاج سابقة التجريب وسابقة التطبيق في مجتمعات متقدمة. الاتجاه الثالث: تحديد الموقف الاخلاقي والمهني من الفساد، وعلي سبيل المثال: 1- هل يعتبر التحديد المسبق والعالي لأجور الشركاء في المؤسسة الطبية بمثابة استيلاء خفي علي الأرباح؟ 2- هل يمكن الحد من الطائفية، سواء في ذلك الطائفية الدينية والمذهبية والايديولوجية والمعهدية، وهل يمكن اعتبارها فساداً؟ حيث تتردد الآن أقوال كثيرة عن: - مستشفي لا يعمل فيه إلا المنتمون للجامعات الاسلامية. - مستشفي لا يعمل فيه إلا الأقباط - مستشفي لا يعمل فيه أقباط. - مستشفي يقتصر العاملون فيه علي خريجي كلية طب بعينها. 3- هل يعتبر التعاقد الاحتكاري مع مراكز الأشعة ومعامل التحليل الضخمة نوعا من أنواع الفساد؟ 4- بعيداً عن المؤتمرات العلمية .. ما هي حدود الحقيقة فيما يتم تداوله أحياناً عن إفادة الأطباء الكبار من تسهيلات شركات الدواء العالمية؟ 5- هل يمكن وضع معايير للتعويض الاجباري عن أخطاء المهنة؟ 6- متي يمكن تفعيل لجان أخلاقيات المهنة؟ هذه .. وغيرها .. تساؤلات طرحت نفسها علي جدول الاعمال .. وكان مجرد طرحها مهما في حد ذاته .. لكن سيكون الأهم التوصل إلي إجابات شافية عليها وحلول ناجعة لها. وعلي العموم .. فان إثارة قضية الفساد في قطاع الصحة كانت خطوة موفقة تحسب للتحالف المصري للشفافية ومكافحة الفساد (امل). وهو ما يجعلنا نتطلع إلي تنفيذ وعد الدكتور حسام بدراوي بتفعيل هذا التحالف الاهلي واضطلاعه بفتح ملفات الفساد في قطاعين آخرين .. في نوفمبر ويناير المقبلين. فلعلنا - بمثل هذه المبادرات - ننجح في تحسين وضع مصر وجعلها في مرتبة أفضل علي مؤشر الشفافية بعد أن حصلنا علي ثلاثة من عشرة فقط لا غير في امتحان الشفافية حتي الآن. [email protected]