نادرا ما يكون التغير الطفيف في سعر الفائدة موضع اهتمام من أحد.. ولكن قيام بنك اليابان برفع سعر الفائدة بنسبة 0.25% يوم 14 يوليو بعد قفزة هائلة إلي الأمام بالنسبة للاقتصاد الياباني الذي ظل سعر الفائدة فيه صفرا لمدة تناهز السنوات السبع.. وكان تصفير سعر الفائدة أحد الإجراءات المهمة التي جري اتخاذها لإخراج اقتصاد اليابان من الركود وأزمة السيولة العنيفة التي سيطرت عليه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي رغم كونه ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن تجربة اليابان تجربة غير مسبوقة حيث ظلت نحو خمسة عشر عاما في حالة جمود اقتصادي لا تعرف النمو الجيد الذي عرفته اقتصادات العالم المتقدم الأخري خاصة الاقتصاد الأمريكي. لقد عانت اليابان أزمة مصرفية بسبب انفجار فقاعة الأصول ولم تكن اليابان وحدها هي التي واجهت أزمة مالية بل سبقتها إلي ذلك أمريكا في الثمانينيات والسويد في التسعينيات ثم الأزمة المالية الاَسيوية العاتية عام 1997 ولكن كل هذه الأزمات سرعان ما انتهت بعد أن تم شطب الديون المتعثرة والمعدومة وتنظيف الجهاز المصرفي واستأنفت اقتصادات هذه الدول نموها بعكس اليابان التي أزمنت معها الأزمة. فاليابان بدلا من أن تلجأ إلي تصحيح أخطاء نظامها المالي حاولت الخروج من أزمتها عن طريق الإنفاق السخي علي الأشغال العامة لكي يتحرك الاقتصاد ويحقق أهداف النمو. ورغم الأزمة فقد كانت ثقة الناس في النظام الياباني المصرفي وعدم لجوئهم إلي السحب الجماعي للودائع أحد أهم أسباب صمود اليابان وعدم وصول الركود عندها إلي عمق وضراوة الركود الذي شهدته الولاياتالمتحدة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.. ومع ذلك فيمكن القول بأن اليابان دفعت ثمنا فادحا للأزمة حيث عانت مركّبا من تدمير الثروة، وتدني النمو الاقتصادي لفترة طويلة وممتدة، إلي جانب أزمة السيولة وانخفاض الأسعار. ونظرا لأن هذه الأزمة أصابت اليابان وهي دولة غنية بل واحدة من أغني الدول علي الأرض فيمكن القول بأنها كانت دولة محظوظة.. وهذا لا ينفي أن أداءها الاقتصادي كان سيئا في الفترة من 1990/2005.. ففي هذه الفترة لم يتجاوز معدل النمو في إجمالي الناتج المحلي 1.3% سنويا، ولو لم تحدث هذه الأزمة لكان الاقتصاد الياباني أكبر بنسبة 25% في قيمته الحقيقية عما هو عليه الاَن، فحجم الاقتصاد الياباني يكاد يكون متوقفا عند مستواه في عام 1997 بسبب أزمة السيولة وانخفاض الأسعار. وبالمقارنة نجد أن الاقتصاد الكوري الجنوبي زادت قيمته الحقيقية 65% خلال نفس الفترة 1997/2005 أما الاقتصاد الأمريكي فزادت قيمته الحقيقية أيضا 50%.. ولذلك كان الركود الياباني مبددا هائلا للثروة والفرص علي حد سواء. ولكي نفهم لماذا حدثت الأزمة اليابانية نذكر أن اليابان بعد الحرب العالمية الثانية اعتبرت أن البنوك وليس أسواق المال هي أفضل طريق لحقن النمو الصناعي السريع، وبذلك صارت البنوك اليابانية هي المصدر الرئيسي للتمويل وليس معني ذلك أن أسواق المال اختفت كليا من اليابان، فقد ظلت بورصة طوكيو قائمة ولكن دورها كان هامشيا، وتولت البنوك جمع المدخرات اليابانية الهائلة مقابل أسعار فائدة متدنية وإعادة ضخها في الصناعة ولذلك حقق الاقتصاد الياباني معدل نمو بلغ 9.6% سنويا في الفترة بين 1960/1973 حسب أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وانخفض فيه معدل البطالة إلي 1.3% فقط خلال نفس الفترة. وحتي بعد صدمة البترول الأولي عام 1973 ظل معدل نمو الاقتصاد الياباني 3.8% سنويا حتي عام 1989 وكانت معدلات جيدة بالمقارنة مع بلدان أخري كثيرة. وفي الثمانينيات صارت اليابان أكبر دائن في العالم ولكن فائضها التجاري الكبير صار مشكلة في علاقتها بالولاياتالمتحدة وبدلا من أن تتفجر حرب تجارية بين البلدين أجبرت واشنطن طوكيو علي رفع سعر الين أمام الدولار من 260 ينا لكل دولار ليصبح 150 ينا فقط لكل دولار للحد من الصادرات اليابانية.. وكانت هذه هي بداية التدهور خصوصا عندما قرر بنك اليابان رفع أسعار الفائدة في 25 ديسمبر 1989 من أجل تبريد الأسواق، وهبطت بالفعل أسعار الأسهم كما هبطت أسعار الأرض وكانت أربعة أخماس قروض البنوك اليابانية مضمونة بالعقارات والأراضي فبدأت أزمة الجهاز المصرفي كله وهي أزمة طالت كل البنوك دون استثناء وبلغ حجم القروض المتعثرة والمعدومة قرابة ال 60 تريليون ين "نحو 635 مليار دولار" ولعلاج الموقف لجأت الحكومة إلي إجراءين متلازمين الأول هو حقن البنوك بأموال إضافية من البنك المركزي كانت دفتها الأولي 30 تريليون ين "نحو 318 مليار دولار" والثاني هو خفض أسعار الفائدة حتي صارت صفرا وأمكن للحكومة بجهد جهيد أن تطهر الجهاز المصرفي من أربعة أخماس ديونه المعدومة وهو ما أعاد للاقتصاد الياباني بعض توازنه. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن التوسع الاقتصادي الراهن بدأ واهيا في عام 2002 وبنهاية العام الحالي ستعد أطول فترة توسع متصلة يمر بها الاقتصاد الياباني منذ الحرب العالمية الثانية.. ورغم أن كثيرين لايزالون يتشككون في التوسع الياباني الجديد فإن الشيء الذي لا يمكن إنكاره هو أن البنوك صار حالها أفضل وكذلك الشركات بل الأفراد أيضا الذين كانت لهم حسابات مدينة لدي البنوك اليابانية. وقد ارتفع معدل التضخم بشكل ملموس ولذلك يتوقع الخبراء أن يلجأ بنك اليابان إلي رفع سعر الفائدة ربع نقطة أخري في وقت لاحق من العام الحالي وأن يرفعها نصف نقطة لتصبح 1% خلال العام القادم 2007. كما يتوقع الخبراء أيضا أن يزيد معدل النمو الاقتصادي في اليابان خلال السنوات القادمة بأكثر من 2.2% سنويا.. وبعبارة موجزة نستطيع القول بأن الاقتصاد الياباني خرج من أزمته الطويلة ويصعب أن يرتد إليها مرة أخري.