كانت مفاجأة حقا حينما أعلن نيكولاي ساركوزي وزير الداخلية الفرنسي والرجل القوي المرشح للرئاسة بعد شيراك انه يري ضرورة تأميم شركة السويس الفرنسية وهي إحدي الشركات العملاقة في مجال البترول والطاقة.. والمفاجأة لها أوجه عدة وأسباب تقلب الكثير من المعايير التي سادت علي الأقل في العقدين الماضيين والوجه الأول والمثير لهذه المفاجأة أنها تأتي من وزير داخلية فرنسا وهو عضو في الحزب اليميني الحاكم الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي جاك شيراك ولم تأت من جانب الحزب الاشتراكي المعارض أو الحزب الشيوعي الفرنسي الأمر الذي يعني انه أصبح هناك تداخل كبير بين القوي السياسية وتصنيفاتها التقليدية خاصة في أوروبا. أما الوجه الثاني للمفاجأة فهو أن يعلن مسئول فرنسي كبير بوضوح أنه مع تأميم احدي الشركات الفرنسية الكبري العاملة في مجال الطاقة وذلك من أجل الصالح القومي بينما كان يحسب البعض انه في ظل سيادة قوانين السوق الحر المفتوحة والمنافسة والاتجاه الواسع للخصخصة ان التأميم أصبح شعارا من مخلفات الماضي في عصر انقسام العالم الي معسكرين ووجود معسكر اشتراكي قوي في شرق أوروبا يتزعمه الاتحاد السوفيتي السابق. وقد كان ومازال من المعتقد انه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وسيادة القوانين الرأسمالية والعولمة التجارية فان توليفة الخصخصة الواسعة وفتح السوق بلا حدود امام الاستثمارات الارضية والمحلية والدخول في معارك المنافسة التجارية الشرسة هي حصن الأمان للملايين خاصة دول العالم الثالث الفقيرة والمغلوب علي أمرها. أما الوجه الثالث للمفاجأة فهي أن شركة السويس الفرنسية كانت ثمرة من ثمار تأميم قناة السويس سنة 1956 حينما قدمت مصر تعويضات لأصحاب الأسهم الفرنسيين حوالي 150 مليون دولار كانت في الواقع تمثل رأسمال الشركة الفرنسية الجديدة التي أطلق عليها شركة السويس وعلي مدي الخمسين عاما الماضية أصبحت شركة السويس واحدة من كبريات شركات البترول والطاقة العالمية ويقدر رأسمالها حاليا بحوالي 40 مليار يورو أي ان تأميم قناة السويس الذي جري في يوليو 1956 ويحتفل بمرور 50 عاما علي ذكراه أنتج بعد خمسين عاما قرارا أو ارادة أخري للتأميم عن الجانب الآخر الذي كان هو نفسه ضد تأميم قناة السويس وضد ما يسمي بالمصالح الاقتصادية القومية. أما الوجه الرابع للمفاجأة فان تفكير الحكومة اليمينية الفرنسية في تأميم شركة السويس يجيء بعد العرض الذي تقدمت به شركة ايطالية لشراء الشركة الفرنسية وهنا سارع كل من ساركوزي وزير الداخلية بل ودي فيلبان رئيس الوزراء الي المطالبة بتأميم الشركة الفرنسية ودمجها مع الشركة الفرنسية العملاقة المملوكة للدولة -جاس دي فرانس- وذلك لقطع الطريق أمام العرض الايطالي وتحت دعوي حماية المصالح الاقتصادية القومية الفرنسية. والقضية في فرنسا لا يمكن أن تنحصر فيما ذهب اليه البعض من ان هذا الاجراء الذي اقترحته الحكومة الفرنسية اليمينية ليس سوي سلاح في المعركة الانتخابية الشرسة التي بدأت تجري في فرنسا بالفعل رغم ان موعد الانتخابات يأتي في العام القادم وذلك لمواجهة مرشحة الرئاسة الفرنسية الاشتراكية السيدة سيجولان رويال Sigolain Royal مرشحة الحزب الاشتراكي والتي تعطيها استطلاعات الرأي العام نسبا عالية في مواجهة ساركوزي أو دي فيلبان المرشحان الممثلان لاحزاب اليمن الفرنسي. ففي فرنسا مازال هناك قطاع عام قوي قامت بوضع أسسه الاحزاب اليسارية كما ساهم في دعمه ايضا الزعيم اليمني الفرنسي شارل ديجول والذي اضاف الي قطاع الدولة شركات الابحاث والصناعات الذرية والفضائيات والسكك الحديدية يقدر قطاع الدولة في فرنسا بأكثر من 40%. وتقول آخر استطلاعات للرأي في فرنسا إن أغلبيته لا تقل عن حوالي 70% تؤيد حماية الصناعات الوطنية بما في ذلك التأميم، هناك اعتقاد بان رفض اغلبية الشعب الفرنسي للدستور الارووبي المقترح في العام الماضي كان وراءه تلك النزعة وخاصة بعد شواهد كثيرة تؤكد ان هناك شركات المانية وايطالية عملاقة تسعي الي شراء مؤسسات صناعية فرنسية كبيرة مثلما جري بالنسبة لشركة السويس وايضا العرض الألماني الذي تقدمت به شركة المانية لشراء شركة آركيلوس للحديد والصلب، بل ان الولاياتالمتحدةالامريكية نفسها -وليست فقط فرنسا- اتخذت نفس الموقف في الدفاع عما يسمي بحماية الاقتصاد القومي من الغزو الرأسمالي الاجنبي وذلك حين وقف الكونجرس الامريكي ووزارة الدفاع الامريكية ضد حصول شركة خليجية في دبي حق الاشراف علي تشغيل وتنظيم العمل في ست موانئ امريكية وانتهي الامر كما هو معروف بالغاء الصفقة الأمر الذي يعني ان الولاياتالمتحدة صاحبة نظرية العولمة الاقتصادية التي تدعو الي حرية التجارة وفتح الاسواق بلا حدود والمنافسة الحرة بلا قيود والخصخصة الواسعة بعيدا عن الدولة هي نفسها التي سنت هذه القوانين وهاجت وماجت وأيدت وعربدت حين قامت الشركة الخليجية بشراء حق الاشراف والتشغيل لست موانئ أمريكية. وبدا واضحا ان الولاياتالمتحدة ومعها فرنسا في العولمة الاقتصادية من الدول الصناعية الكبري تفهم وتطبق قوانين العولمة وفقا لمقياس مصالحها أو مثلما يقول الكاتب الفرنسي باتريك ساباتير أنها تتعامل مع قوانين العولمة ?la carte أي حسب الطلب وانها تتمسك بالمثل القائل "ما هو لي فهو لي وحدي وما هو ملك الآخر فأمره مطروح للمناقشة". فحينما أعلن الرئيس البوليفي الجديد ايف مورال تأميم شركات البترول في بلاده قامت الدنيا ومازالت قائمة في الولاياتالمتحدةالامريكية واعلن ممثلون عن الشركات البترولية الامريكية والاوروبية الكبري التي تنال نصيب الاسد من بترول بوليفيا ان القرار الأخير للرئيس البوليفي هو عودة الي سياسات التأميم البالية!! وسفح لكل القواعد المعمول بها في قوانين التجارة الدولية وتدشين جديد لسياسات التأميم والانغلاق!! أي انهم حين يؤممون ويقفون ضد شراء رأس المال الاجنبي لمؤسسات مهمة في بلادهم فهو أمر مشروع.. ولكنه محرم علي دول العالم الثالث ان تحمي ثرواتها الطبيعية والبشرية وان تفتح كل الطرق امام المزيد من استنزاف قدراتها وطاقاتها وامتصاص دمائها لصالح الشركات المتعددة الجنسيات في امريكا واوروبا. ولعل ذلك هو الذي دفع كثيرا من دول امريكا اللاتينية وكذلك كثير من دول شرق آسيا برفض توليفة العولمة الاقتصادية المصحوبة بروشتة البنك الدولي وصندوق التنمية وكان من الطبيعي ان المرضي الذين رفضوا هذه الروشتة الامريكية تحسنت صحتهم الاقتصادية وبدأت تدب العافية في مجتمعاتهم واقتصادهم بينما ظل آخرون ممن رضخوا لشروط البنك الدولي والولاياتالمتحدة طريحي الفراش والفقر الاقتصادي والعجز وعدم القدرة.