تشن الأوساط المالية والتجارية الأمريكية ومعها كثير من أجهزة الاعلام في الولاياتالمتحدة حملة قوية ضد عدد من بلدان أمريكا اللاتينية خاصة فنزويلا وبوليفيا تحت دعوي الخروج علي الخط السائد والعودة إلي التأميم والاقتصاد الموجه. وحينما أعلن الرئيس البوليفي المنتخب ايفومور اليزر تأميم شركات البترول في بلاده قامت الدنيا ومازالت قائمة في الولاياتالمتحدة الأخ الكبير الشرس الرابض في شمال القارة وأعلن ممثلون عن الشركات البترولية الأمريكية الكبري التي تحصل علي نصيب الأسد من بترول بوليفيا أن القرار الأخير للرئيس البوليفي مثل قرارات مماثلة للرئيس الفنزويلي هوجو شافيز قد سفح كل القواعد المعمول بها في قوانين التجارة الدولية وأعاد إلي الأذهان نغمة التأميم من جديد بعد أن سادت قوانين العولمة القائمة علي السوق المفتوح بلا حدود والمنافسة الحرة بلا قيود والخصخصة الواسعة لوسائل الإنتاج وإبعاد والدولة عن التدخل في مجريات السوق. وكان من الطبيعي الأمر كذلك أن توضع بوليفيا مثل فنزويلا علي قائمة الدول المعادية للمصالح الأمريكية أو ما يطلق عليها بالدول المارقة جنبا إلي جنب مع كوبا وإيران وكوريا الشمالية وغيرها من الدول في حين أسقطت الولاياتالمتحدة ليبيا من القائمة نتيجة شهادات معتمدة ومختومة بنسر البيت الابيض بحسن السير والسلوك. وذلك بالرغم من أن بوليفيا لم تؤمم هذه الشركات بشكل كامل بل زادت تصيب الدولة إلي أكثر من 50% حتي يكون لها الحق في الاشراف الفعلي علي مقدرات الشعب البوليفي في حين تركت لبعض الشركات البرازيلية والأرجنتينية العاملة في هذا المجال حرية الحركة. ويحك البعض رؤوسهم وبعنف حول هذا الهجوم علي بعض بلدان أمريكا اللاتينية واتهام الأنظمة القائمة بأنها نظم شمولية وديكتاتورية أنه من الثابت أن كلا من إهومور اليز في بوليفيا وهوجو شافيز في فنزويلا قد جري انتخابهما بشكل ديمقراطي أشرفت عليه لجان مراقبة من الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة نفسها وأن النظم القائمة الآن في عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية كلها تتبع الاشكال الديمقراطية وكلها جاءت بانتخاب شعبي وجماهيري كبديل عن نظم فاسدة ولا ديمقراطية كانت موجودة تساندها الشركات الأمريكية والمخابرات الأمريكية. كذلك فإن هذا الموقف المزدوج سواء بالنسبة للديمقراطية أو تطبيق قوانين العولمة وفقا للتطبيقات الأمريكية مثير للدهشة والتساؤل بشكل خاص بعد المعركة التي دارت في الولاياتالمتحدة نفسها منذ أكثر من عام احتجاجا علي قيام شركة خليجية في دبي بشراء حق الاشراف علي تشغيل وتنظيم العمل في بعض الموانئ الأمريكية. ومن منا لا يذكر تلك المعركة الطاحنة التي جرت في الصحف وأجهزة الاعلام الأمريكية والكونجرس والبنتاجون احتجاجا ورفضا لقيام الشركة الخليجية بتشغيل وتنظيم العمل في بعض الموانئ الأمريكية وذلك تحت دعوي أن تدخل رأس المال الأجنبي في إدارة هذه الموانئ هو بمثابة خلل للأمن القومي الأمريكي حيث إن لها أهمية استراتيجية. وتبارت بعض أجهزة القرار في الولاياتالمتحدة في شرح الخطايا التي يمكن أن تنتج نتيجة تدخل رأس المال والشركات الأجنبية في مؤسسات مهمة واستراتيجية وضرورة بقاء المصالح الأمريكية الحيوية في أيدي الأمريكيين بل وجري اتهام بعض أعضاء الكونجرس الذين وافقوا علي هذه الصفقة بأنهم يبيعون أمريكا وأمنها الاقتصادي والاجتماعي. وانتهي الأمر كما هو معروف بوقف الصفقة وإلغاء العملية كلها وبدا واضحا أن الولاياتالمتحدة تفهم وتطبق العولمة وفقا لقياس مصالحها الخاصة أو مثلما يقول الكاتب الفرنسي باتريك ساباتير تتعامل مع قوانين العولمة وفقا للطلب ala Carte وأنها تتمسك بالمثل القائل ما هو لي فهو لي وما هو ملك الآخر فأمر مطروح للمناقشة. علي أن هذا الاتجاه أو ما يسمي بحماية المصالح القومية العليا ضد الخصخصة وضد التجارة الحرة وضد ملكية رأس المال الأجنبي بل وضد القوانين الدولية تأخذ به الولاياتالمتحدة بشكل مطلق فهي ترفض توقيع معاهدة كيوتو الدولية الخاصة بالبيئة لنفس الاسباب كما أنها ترفض التوقيع علي قانون المحكمة الجنائية الدولية وأيضا لنفس الأسباب حماية المصالح القومية العليا بل إنها تضرب عرض الحائط بقوانين منظمة التجارة الدولية التي سعت إلي تأسيسها حيث تقدم الدولة الأمريكية دعما كبيرا لشركة بوينج للطيران والاسلحة بغرض مساعدتها علي المنافسة والسيطرة علي السوق كذلك الدعم الكبير الذي تقدمه الدولة حوالي 8 مليارات دولار للمزارعين الأمريكيين الكبار وخاصة أصحاب مزارع القطن وذلك حفاظا علي الأسعار ودعم القطن الأمريكي في مواجهة بلدان أخري منتجة للقطن في دول العالم الثالث. وما تفعله أمريكا تحت دعوي حماية مصالحها القومية تفعله كثير من دول العالم الرأسمالي وخاصة دول الاتحاد الأوروبي وأصبح ظاهرة واضحة ففي فرنسا مازال هناك قطاع عام وقوي بل إن نيكولاي ساركوزي وزير داخلية فرنسا والمرشح لانتخابات الرئاسة الفرنسية عن الحزب الديجولي المحافظ يضع في برنامجه ضرورة تأميم شركة السويس الفرنسية وهي وإحدي الشركات العملاقة العاملة في مجال البترول والطاقة ودفع مجلس الوزراء الفرنسي إلي استصدار قرار بدمج الشركة الفرنسية إلي المؤسسة البترولية العملاقة التي تملكها الدولة جاز دي فرانسي وذلك لقطع الطريق علي محاولة شركة ايطالية شرائها. وفي ايطاليا أعلن البنك المركزي الايطالي عن عدد من القواعد والشروط التي تستهدف في واقع الأمر منع الأجانب من شراء البنوك وشركات التأمين الايطالية المملوكة للدولة بينما رفضت الحكومة الاسبانية عرضا ألمانيا لشراء شركة أندلسيا الاسبانية للطاقة وضمتها إلي القطاع العام. ومعني ذلك أن الولاياتالمتحدة واللاعبين الكبار في ملعب العولمة الرأسمالية يقفون ضد شراء رأس المال الأجنبي لمؤسسات حيوية في بلادهم ويحتفظ كثيرون منهم بقطاع عام قوي ومؤثر بما لا يكفون صباح مساء عن الضغط علي دول العالم الثالث لفتح الاسواق بلا حدود والخصخصة الواسعة بلا قيود. ولعل ذلك هو الذي دفع كثيرا من الأنشطة الديمقرطية الجديدة في دول أمريكا اللاتينية وكثيرا من دول شرق أسيا رفض توليفة العولمة الاقتصادية المصحوبة بتوصيات وروشتة البنك الدولي ومن الغريب أن المرضي الذين رفضوا هذا العلاج الأمريكي تحسنت صحتهم الاقتصادية ودبت العافية في مجتمعاتهم مع زيادة معدلات الإنتاج وانخفاض البطالة والتضخم. بينما ظل آخرون ممن قبوا الروشتة طريحي الفرش والفقر الاقتصادي والعجز وعدم القدرة.