يعتقد كثير من الأمريكيين أن المنافسة التجارية غير العادلة من جانب البلدان الاَسيوية الصاعدة خاصة الصين هي المسئولة عن العجز الكبير في الميزان الحسابي الأمريكي وما ينساه هؤلاء أن البلدان المصدرة للبترول وليست البلدان الاَسيوية هي صاحبة الفوائض الكبيرة في موازينها الحسابية. ومع ارتفاع أسعار البترول إلي مستويات غير مسبوقة ناهزت ال 75 دولارا للبرميل في الأيام الأخيرة فإن فوائض البلدان المصدرة للبترول ستزيد زيادة هائلة.. وفيما يخص أمريكا فإن ارتفاع أسعار البترول هو المسئول عن نصف ما تعانيه من عجز في ميزانها الحسابي منذ عام 2003 حتي الاَن وهو نصيب يفوق ما تسهم به الصين في صنع هذا العجز. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تؤدي الزيادة في أسعار البترول إلي تفاقم الاختلالات الاقتصادية الدولية.. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن حجم الإيرادات البترودولارية التي حققتها دول الأوبك بجانب روسيا والنرويج وعدد قليل اَخر من الدول المصدرة للبترول قد بلغ 800 مليار دولار في عام 2005 وهو أكبر من أية فوائض حققتها الدول البترولية في الأزمات البترولية السابقة. وتقول الأرقام أيضا إن فوائض الميزان الحسابي للبلدان المصدرة للبترول بلغت 400 مليار دولار في عام 2005 وهو أكثر من 4 أضعاف ما تحقق في عام 2002 ويتوقع أن تصل هذه الفوائض في العام الحالي 2006 إلي أكثر من 480 مليار دولار.. وبالمقارنة فإن جملة الفوائض التي حققتها الصين والاقتصادات الاَسيوية الناشئة الأخري في عام 2005 لم تتجاوز ال 240 مليار دولار.. أضف إلي ذلك أن فوائض الدول المصدرة للبترول تعتبر ضخمة بالمقارنة مع حجم اقتصاداتها الكلية حيث تبلغ هذه الفوائض 18% من إجمالي الناتج المحلي لتلك الدول مقابل 7% فقط لدولة مثل الصين. ومعروف أن البترودولارات يمكن إعادة تدويرها إلي البلدان المستوردة للبترول بطريقتين: الأولي هي أن تقوم الدول المصدرة للبترول باستيراد سلع وخدمات إضافية من الدول المستوردة للبترول والثانية هي أن تستثمر الدول المصدرة للبترول فوائضها في أسواق المال العالمية وتمول بذلك مثلا العجز في الميزان الحسابي الأمريكي وغيرها من البلدان المستوردة للبترول. ومن دروس التجارب السابقة نستطيع القول بأنه بعد كل زيادة في أسعار البترول كانت الاختلالات في الميزان الحسابي يتم علاجها بإحدي ثلاث طرق: الطريقة الأولي أن يؤدي ارتفاع أسعار البترول إلي خفض الدخل الحقيقي والأرباح الحقيقية للدول المستوردة للبترول وهو ما يدفعها إلي تقليل وارداتها من البترول ومن السلع والخدمات أيضا، أما الطريقة الثانية أن يؤدي ارتفاع أسعار البترول إلي زيادة معدل التضخم وهو ما يدفع البنوك المركزية إلي رفع أسعار الفائدة ويتضافر العاملان في العمل علي تقليل الطلب الداخلي بما يؤدي إلي تلاشي العجز الخارجي، وتبقي الطريقة الثالثة وهي انخفاض أسعار صرف عملات الدول المستوردة للبترول علي نحو يسفر عن عودة التوازن إلي ميزانها الحسابي حيث تزيد صادراتها وتقل وارداتها نتيجة للانخفاض في قيمة عملتها.. وبمفهوم المخالفة فإن فوائض الدول المصدرة للبترول تقل بفعل زيادة الطلب المحلي وزيادة الواردات بالتالي وارتفاع قيمة عملاتها في أسواق الصرف. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن صندوق النقد الدولي يتصور أن الوضع هذه المرة سوف يختلف.. فمن ناحية نجد أن ارتفاع أسعار البترول سوف يستمر لفترة طويلة، ومن ناحية ثانية نجد أن إنفاق الدول المصدرة للبترول علي زيادة وارداتها من العالم الخارجي أقل هذه المرة عما كانت تنفقه في المرات السابقة.. فمنذ عام 2002 لم تنفق الدول المصدرة للبترول سوي نصف فوائضها فقط في حين أنها كانت تنفق في السبعينيات 75% من هذه الفوائض.. والواضح أن الدول المصدرة للبترول تعودت علي أن تدخر من أيام اليسر لمواجهة أعباء أيام العسر وعودة أسعار البترول إلي الانخفاض من جديد علي عكس ما كان يحدث لها في السابق. والواضح أيضا أن الولاياتالمتحدة لا تستحوذ إلا علي 8% فقط من جملة واردات الدول البترولية صاحبة الفوائض في حين يستحوذ الاتحاد الأوروبي علي 32% من هذه الواردات، ولذلك فمن المتوقع أن يتزايد العجز في الميزان الحسابي الأمريكي بمرور الوقت.. أكثر من ذلك فإن التضخم لن يزيد بمعدل يدعو إلي رفع أسعار الفائدة كثيرا والسبب هو ما تغرق به الصين والدول الاَسيوية الأخري أسواق العالم من سلع رخيصة الثمن.. وهناك عامل ثالث سيؤخر عودة الأوضاع إلي طبيعتها وسيفاقم من الاختلالات الاقتصادية العالمية وهو أن الدول المصدرة للبترول سوف تستثمر شريحة أكبر من فوائضها في أسواق السندات العالمية.. لقد دأبت هذه الدول في السبعينيات والثمانينيات علي إيداع جزء كبير من فوائضها كودائع في البنوك الأمريكية والأوروبية ولكن هذه المرة سيذهب الجزء الأكبر من الفوائض إلي أسواق السندات والأسهم واقتناء الممتلكات والمساهمة في صناديق التحوط. غاية القول أن الصورة ستكون مختلفة هذه المرة وأن الاختلالات الاقتصادية العالمية الناجمة عن زيادة أسعار البترول لن يتم علاجها بسرعة وفي القلب من هذه الاختلالات العجز في الميزان الحسابي الأمريكي الذي سيواصل الاتساع مادامت أسعار البترول مستمرة في الارتفاع.