من تورونتو. كندا تثبت خبرة التاريخ أن رؤساء وزعماء الدول يدفعهم إنكار شعوبهم لهم.. وتحقير شأنهم.. إما إلي ذرا الإنجاز السياسي والعسكري الفائق الاقتدار.. أو إلي أداء ضعيف بصورة كارثية. الرئيس الامريكي جيمي كارتر.. هبط علي البيت الابيض بمظلة النكران والشك في قدراته السياسية.. الامر الذي دفعه تاليا، بضراوة واحتدام، إلي هندسة معجزة السلام الدائم بين مصر واسرائيل.. شاركه البطولة انور السادات، الذي كرر الحديث عن "سنة الحسم" دون ان يحسم شيئا.. بعدها فجر حرب رمضان المعجزة! وقبل كارتر، كان هاري ترومان يعاني من عقدة التحقير والانكار.. عندما جاء الي الحكم عقب وفاة الرئيس روزفلت، تساءل الامريكيون في البيوت والمحافل والشوارع: "هاري؟.. ترومان؟.. هاري ترومان من؟!".. وكان قليل الحجم ضئيل القامة، لذلك طاردوه بلقب مقيت ساخر: "هذا الرجل الصغير .. في البيت الابيض"! ويجمع المؤرخون السياسيون علي ان عقدتي الانكار وضآلة الحجم كانتا هما الحافز المحرك لترومان الذي دفعه الي القاء قنبلتي هيروشيما في 16 اغسطس 1945، ثم نجازاكي بعد 3 ايام ليبيد ويصيب قرابة ربع مليون من اهل اليابان.. ثم يباهي تاليا في مذكراته بانه: "الرجل الذي اتخذ القرار الاخير في ضرب اليابان بالقنبلة الذرية.. رغم اعتراض الجميع"! وثالثهم آل جور، نائب الرئيس كلينتون.. نجح في انتخابات الرئاسة ضد الرئيس بوش، نوفمبر 2000، التي اشتهرت بقلب: "انتخابات حد الموس" وظلت نتيجتها اكثر من شهر تتأرجح دون حسم يروي العطش السياسي! نهار 7 نوفمبر 2000، أعلنت معظم شبكات التليفزيون الامريكية الرئيسية، ان آل جور هزم منافسه جورج بوش في ولاية فلوريدا، أهم مفاتيح انتخابات الرئاسة الامريكية والولاية التي يحكمها جيب شقيق جورج بوش.. وظل آل جور "الرئيس المنتخب" اعلاميا لبضع ساعات.. ثم سقط المساء، وظهرت نتائج منطقة بانهاندل (Panhandle) اهم المناطق الانتخابية في الولاية، فغيرت النتائج.. وتراجعت شبكات التليفزيون وهي تسحب الفوز من تحت اقدام آل جور..! وبدأت طبخة عد الاصوات، باعتبار ان الفائز باصوات الناخبين في الولاية هو رئيس الولاياتالمتحدة.. ورغم صدور حكم من المحكمة العليا لولاية فلوريدا بان العد اليدوي للاصوات غير دستوري، اعلن الحاكم جيب فوز أخيه بمنصب الرئاسة وارتفعت اصوات الاعتراضات وعلامات الاستفهام! والأخبار كالطير أسراب! هذه الايام، يعود آل جور إلي الساحة السياسية، عبر الساحة الاعلامية: ينشئ قناة تليفزيونية ارضية، جديدة تماما في تركيبتها الفنية، تحمل اسم (Current TV) أو "التليفزيون الجاري"! بهذه الشبكة الجديدة يأمل آل جور ان يحافظ علي وجوده السياسي، وينهي شبح لقب "صاحب الوجه الخشبي" الذي لاحقه في عهد كلينتون وكأنه لعنة الانكار وعدم القبول.. قبل أن يقفز الي ساحة الانتخابات الرئاسية المقبلة، في عام 2008! قليلون يعرفون ان رسالة التخرج في جامعة هارفرد للطالب البرت جور كان عنوانها: "اثر التليفزيون علي الرئاسة الامريكية".. تناول فيها علي امتداد 99 صفحة القوي السياسية علي انتخاب الرئيس الامريكي، فيما بين العامين 1947 و1969.. ومن يقرؤها يكتشف انها تحليل سياسي بصير بالغيب (Prescient analysis) يتنبأ بذات القوي التي انكرت علي آل جور منصب الرئاسة في انتخابات سنة 2000! لكن لماذا قناة "التليفزيون الجاري" الان.. حافز الربح؟ أو انه حافز سياسي؟! يجيب آل جور: "لم تحفزني النقود يوما لاداء عمل ما.. وإن كنت اعتقد ان الانسان يمكنه ان يعيش سوي النفس، وفي مستوي رغد معا! وشبكة التليفزيون الجديدة سوف تكون اختبارا علي مدار الساعة لهذه القضية الحياتية.. فضلا عن استهدافها الاستراتيجي لدمقرطة التليفزيون (democratize TV) كوسيلة اعلامية بالغة "التأثير"! ومن هم العاملون في الشبكة؟ وكيف يتم التشغيل؟ آل جور: "كل من يملك كاميرا رقمية من شباب العالم، وجهاز كومبيوتر.. وهم يشكلون جيشا هائلا من المواطنين الجاهزين للصحافة التليفزيونية.. كل منهم مدعو الي تقديم مقطوعة مصورة، من 15 ثانية الي 15 دقيقة.. نسميها أسرابا (pods).. ويتم عرض هذه الاسراب في سياق اخباري وفني مناسب"! أغرب ما في الامر ان ستوديوهات شبكة "التليفزيون الجاري" في سان فرانسيسكو لا تضم تذكارا واحدا للبيت الابيض.. يشير ولو بالهمس الي الرجل الذي اعتاد ان يسمي نفسه دائما: "الرئيس القادم.. للولايات المتحدة"! بوش.. بالأشعة البنفسجية! دعني اقدم لك جويل هايات، المحامي ورجل الاعمال وشريك آل جور في شبكة "التليفزيون الجاري" التي تولد الان.. يتحدث هايات عن آل جور بمودة وتقدير: "انه حالم كثير الرؤي (Visionary).. يبتكر الجديد دائما.. الجرئ.. والصعب.. تماما مثلما يفعل كخادم للمجتمع"! وليست شبكة التليفزيون الجاري هي الاولي في العالم التي تحول مستهلكي التليفزيون الي منتجي برامج.. سبقتها شبكة أوهمي نيوز (Ohmynews) في كوريا الجنوبية، التي تفاخر بانها تذيع انتاج 38000 مواطن منتج لبرامج التليفزيون! وقد حققت كاميرات التليفون الخلوي لمشاهدي تفجيرات لندن سبقا تليفزيونيا فريدا في تسجيل الحدث المروع! الاضافة العلمية الجديدة لشبكة التليفزيون الجاري سوف تعلم المشاهدين في برامج مفتوحة كيف يحترفون الانتاج التليفزيوني..؟ يلقنهم مهارة الصنعة (Know-how) كبار الصحفيين ونجوم الفن التليفزيوني وأساتذة مدارس انتاج الافلام علي اختلاف مذاهبها الفنية! جاء مخاض ميلاد فكرة "التليفزيون الجاري" في حوار دار بين آل جور وصديق عمره وحليفه في الحزب الديمقراطي جويل هايات ديسمبر 2001 كان السؤال: كيف ننشئ قناة اخبارية تقدم للمشاهد اخبارها بطريقة غير تقليدية، وتجعله شريكا منتجا ومشاهدا ايجابيا يصنع بيده خبزه وإدامه؟! ولدت الفكرة هلاما، ثم تجسمت في خطة تنفيذ تحمس لها 21 مستثمرا ساهموا برأسمال تأسيس قدره 70 مليون دولار، اشتروا قناة اخبار العالم الدولية (News world International) وجهزوا مقرها في سان فرانسيسكو للتحول الفني الكبير. اسماء سياسية لامعة تشارك في المشروع، من بينها السناتور دايان فينشتاين.. اثار السيناتور الديمقراطي تساؤلا بارعا راحت تتناقله له بين الجميع: هل نحن نستثمر اموالنا في مشروع آل جور.. او اننا فقط نقدم له صنيعا؟! وجاءت الاجابة من اورفيل شل، عميد مدرسة الصحافة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي: "ربما كانت مشاركتنا في المشروع مزيجا من الاستثمار والمجاملة معا"! ............. يبقي في جعبتي الرئيس جورج بوش، وامراضه "النفس - سياسية" المتفاقمة.. انها تنعكس بشدة علي سياسته الكونية، فتطول الجميع بآثارها الفاجعة! وبدءا من الخميس القادم - بإذن الخالق ومشيئته - استعرض معك تشريحا علميا امينا لحالة الرئيس الامريكي، تحت عنوان: جورج بوش.. بالاشعة المقطعية!