جو خانق رهيب.. صيف فلوريدا، كما أعرفه، لايضاهيه في امتزاج الحرارة بالرطوبة المتناهية الا صيف عدن والحديدة وجدة.. لزوجة لا تطاق، وكأنك دهنت جسمك بالعسل.. وأنفاس تتردد شهيقا يضن عليك بزفير..! أغسطس 2001.. مطار مدينة أورلاندو، فلوريدا.. محمد القحطاني، شاب سعودي تجاوز ال ،20 يهبط إلي المطار.. ينتظره محمد عطا مهندس ضربة مانهاتن في سيارته بالموقف المتاخم للمطار، ليعطيه التلقين الأخير لعملية سبتمبر، باعتباره "خاطف طائرة رقم 20" بين الفاعلين.. لكن القحطاني لم يخرج من المطار.. قبضوا عليه.. حقق معه ضابط هجرة عن أسباب قدومه للولايات المتحدة، لم يقتنع بقصته.. وبمنتهي السذاجة الأمنية، أمر بترحيله إلي بلاده.. لكن القحطاني حرص علي أن يقول لحراسه لحظة الرحيل: "أطمئنوا سوف أعود"..! بعد أكثر من عام، وفي أعقاب صواعق مانهاتن، غزت أمريكا أفغانستان.. وقع القحطاني في الأسر أثناء هروبه من جبال تورابورا.. رحلوه إلي معسكر إكس راي الشهير بجوانتنامو.. عصروه سحقوا ارادته.. لكنه تمنع علي المحقق وأساليب التحقيق الشرسة، ولم يفش سره.. أستطاعت مجلة تايم أن تحصل علي ملف التحقيقات السربة التي أجريت معه حتي نوفمبر 2002.. لاري دي كبير المتحدثين باسم البنتاجون يعلق علي الملف.. 84 صفحة بعبارة تغمرها الدهشة: "هذا مستند سري.. لم يكن من المفترض ان يبارح معسكرات جوانتنامو"! نقلب معا في أوراق المستند السري.. التحقيقات مع القحطاني تغطي 50 يوما فقط، من أوائل نوفمبر 2002 حتي أوائل يناير 2003.. وهي فترة شديدة الحرج بالنسبة لعدد مختار من معتقلي جوانتاموا، استعلمت معهم فيها 16 وسيلة اضافية من وسائل التحقيق الساحقة لارادة المتهم وقدرته علي المقاومة وعدم البوح.. تم ذلك بتصديق من دونالد رمسفيلد وزير الدفاع شخصيا! لكن الأوراق لا تعكس نتاجا بأي قدر لوسائل التحقيق الوحشية مع القحطاني.. رغم انه مصنف علي أنه: "مصدر مفيد للمعلومات المخابراتية.. خاصة تفصيلات لقاءاته المتعددة مع بن لادن، ومعرفته الجيدة بأسماء عملاء ومصادر تمويل في عدد من الدول العربية.. في مقدوره تقديم معلومات وصفية عن معسكرات التدريب، ومواقع مأوي بن لادن، وكيف استطاع الهروب من جبال تورابورا في ديسمبر ،2001 رغم وابل القصف الجوي اليومي الطاحن"! علي امتداد 50 يوما من التحقيقات الوحشية، لم يبح القحطاني بمعلومة مخابراتية مفيدة، يقول الخبراء: "ان التعذيب والإكراه بالتهديد "dairess" لا تفيد.. المتهم يقول عادة أي شيء يجافي الحقيقة ليوقف تيار الألم"..! ويقول مسئول بالبنتاجون: "إن القحطاني مدرب بعناية علي المراوغة في مواجهة الأسئلة المباشرة"! التعامل مع الشيطان! استعمل المحققون مع القحطاني أساليب يومية منتظمة تسلبه كبرياءه واستقلاله الذاتي: تخويف. عنف. تحطيم "الأن" زرع أحاسيس بعبثية المقاومة وعدم جدواها استنباط ما يمكن استقراؤه من الأدلة الظرفية "cireumstantial evedence"! وعدوه بمعاملة افضل عذبوا ضميره بصور ضحايا ضربة سبتمبر، خاصة الأطفال والشيوخ، قالوا له أنه فشل في مهمته، وأنهم قبضوا علي زملائه واعترفوا بدوره في كل ما جري.. تلاعبوا بعواطفه، ووعدوه برؤية أهله وأصدقائه وزيارة وطنه السعودية.. إن اعترف.. لكنه لم يفه بمعلومة واحدة مفيدة.! أصر القحطاني علي أنه جاء إلي الولاياتالمتحدة ليتجر بالسيارات المستعملة.. قال له المحقق: "هذه كذبة قديمة".. رد عليه ساخرا " إنك تتعامل مع الشيطان نفسه"! عذبوه بحصر البول فامتنع عن شرب الماء حتي أصيب بالجفاف! حقنوه بالسوائل، فأخرج الأبرة من الوريد مرة، وقضم الخرطوم باسنانه مرة أخري! قيدوه، وحقنوه ب 4 لترات كاملة حتي امتلأ، واستأذن في الذهاب لدورة المياه، منعه المحقق: "ليس قبل ان تجيب عن اسئلتي".. أعطاه أجوبة ساذجة، نهره المحقق: "انت تضيع وقتي".. وصرخ القحطاني: و"أنا أريد أن اتبول".. رد المحقق ببرود: "اعملها في بنطلونك".. وبكل القهر والاذلال، فعلها القحطاني! استعملوا معه أساليب خادعة "juggling technigues": يوفرون له بيتا مستقلا، وطباخا يعد له الوجبات العربية.. رفض أن يتذوقها! عرضوا أمامه فيلما تسجيليا لانهيار مبني التجارة العالمية في مانهاتن بفعل ارتطام الطائرات، هاج القحطاني وماج.. ثم هدأ كالعاصفة بعد زوالها وقال لمستجوبيه: "لو حققتم معي بطريقة مناسبة، ربما صادفتم بعض الأجوبة".. ويعترف المحققون بأنهم حصلوا منه علي بعض المعلومات الثانوية، كلما عاملوه بيسر وإنسانية! حتي في رمضان، كان يرفض الطعام والماء علي مدار الساعة، بدعوي الاضراب لا الصيام.. وعندما منعونه من الصلاة الا اذا شرب الماء قبل الوضوء، رضخ وشرب! هذه المرونة دفعت المسئولين في جوانتنامو الي طلب موافقة واشنطن علي استعمال مزيد من الوسائل العضلية لكسر مقاومة القحطاني.. وفي 2 ديسمبر العام الماضي، وافق دونالد رمسفيلد علي استعمال 16 وسيلة قهرية قوية "stronger coercive methods" منها: الحبس الانفرادي لفترة 30 يوما.. الوقوف عاريا لساعات طويلة.. حلاقة اللحية.. الهلع المرضي من اشياء معينة "individune phobias" مثل الكلاب الشرسة.. إلي غيره! ومنع رمسفيلد استعمال 3 أساليب أخري، منها: استعمال فوطة مبللة حول الوجه لإحداث احساس طاغ بالاختناق! .. ورغم ذلك، كان المحققون يغمرون رأس القحطاني بزجاجات الماء البارد، كلما امتنع عن شربه.. وهي لعبة تعذيب من ألعاب التحقيق يسمونها: اشرب الماء.. أو البسة! "drink water..or wearit" حريق.. يتعذر إطغاؤه! اخضعوه في الأيام التالية للعبة يسمونها: غزو الفضاء.. امرأة فاتنة تلاحقه بجسدها وخصورها الجنسي في القيام والقعود.. اهتز القحطاني وأصابه ارتباك جسدي ونفسي شديد! سحبوا المرأة، وادخلوا عليه كلبا متوحشا، لكنه أنس إليه.! غير المحققون فجأة تكتيكات التحقيق، أجبروه علي خلع ملابسه والوقوف عاريا لساعات طويلة ومن حين لآخر يضعون أمامه صور بعض الارهابيين ويطلبون منه أن يزوم كالكلب وينبح بينما أحاطوا رقبته بسلسلة من صور لنساء عاريات.. جاءوه بمحققة جميلة راحت تلاحقه بأسئلتها وتضيق عليه الخناق.. حتي انفجر في وجهها برغبته في ان ينتحر، وطلب منها ورقة وقلما ليكتب وصيته! في 10 يناير ،2003 تقدم القحطاني لمستجوبيه بعرض محدد: أن يعمل كعميل مزدوج لحساب أمريكا في دول الخليج.. مقابل حريته! وبعد 5 أيام بالتحديد ألغي رمسفيلد استعمال وسائله القهمية للاستجواب، بعد أن انتقد رجال القانون العسكريون في واشنطن قسوتها وقلة فعاليتها "efficacy".. وتنفس ال 520 معتقلا في معسكرات جوانتنامو.. الصعداء! قساوات جوانتنامو اشعلت في واشنطن حريقا يتعذر اطفاؤه.. عشرات القضايا رفعها المعتقلون أمام القضاء الأمريكي، يطالبون بأرقام فلكية من التعويضات عن الأضرار المادية والنفسية التي لحقت بهم.. وعلي رأسهم محمد القحطاني، المعتقل رقم 63.! منظمة العفو الدولية وصفت وحشية جوانتناموا بأنها "جولاج العصر والأوان".. اسقطت عليها اسم معسكرات الاشغال الشاقة السوفيتية الشهيرة في عهد الطاغية جوزيف ستالين! الرئيس جيمي كارتر طالب المسئولين في واشنطن باغلاق معسكرات العذاب في جوانتنامو.. فورا ودون ابطاء! حتي الرئيس بوش استشعر حرج موقفه والشعبة السوداء التي تلاحق عهده، وقال لشبكة فوكس قبل أيام "ان الادارة الأمريكية تبحث عن بدائل لمعسكرات الاعتقال في خليج جوانتنامو"! .. ولعله لا يقصد بديلا جغرافيا للمكان، ينقل اليه مراكز العذاب الوحشي داخل أراضي الولاياتالمتحدة.. من باب التموية والتجديد!