يكتسب الاستفتاء الذي يجري في فرنسا الأحد القادم "29 مايو" حول الدستور الأوروبي أهمية خاصة تتجاوز فرنسا وأوروبا كما "يطرح" أبعادا عالمية. وفرنسا تعتبر القوي الأساسية التي دافعت عن الوحدة الأوروبية منذ السوق المشتركة في الاتحاد الأوروبي ودستوره، كما أن فرنساوألمانيا تمثلان القاطرة الرئيسية الدافعة للاتحاد وحتي بعد انضمام دول شرق ووسط أوروبا العشر في العام الماضي. ثم فوق هذا كله كانت فرنسا هي التي قادت دول الاتحا الأوروبي خاصة ألمانيا وبلجيكا وأسبانيا في اتجاه مضاد للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط خاصة الغزو الأمريكي للعراق.. واذا كانت ألمانيا ومعها عدد آخر من الدول الأوروبية قد اختارت أن تكون الموافقة علي الدستور الأوروبي المقترح من جانب البرلمانات في هذه الدول وهو ما جري بالفعل في تلك البرلمانات إلا أن فرنسا وتحديدا الرئيس الفرنسي جاك شيراك اختار أن نطرح قضية الموافقة علي الدستور الأوروبي في استفتاء عام ولم يكن بعيدا عن حسابات شيراك في ذلك الوقت انتخابات الرئاسة الفرنسية 2007 خاصة وأنه كان أيامها علي يقين من أن الشعب الفرنسي متحمس وبشكل واسع للتصويت بنعم.. كانت حسابات شيراك تنطلق من أسس موضوعية ليس فقط لدور فرنسا التاريخي في انضاج فكرة الاتحاد الأوروبي وطرح نظرية البيت الأوروبي الواحد من جبال البرانس حتي الأورال حسبما طرحها الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديجول بل أيضا من حقيقة أن أحزاب المعارضة الرئيسية وبالذات الحزب الاشتراكي الفرنسي متحمس للاتحاد الأوروبي ولمشروع الدستور في صياغته النهائية. فحين يتفق الحزبان الرئيسيان اللذان ظلا يحكمان فرنسا طوال نصف قرن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وهما التيار الديجولي "التجمع من أجل الديمقراطية" والتيار الاشتراكي "الحزب الاشتراكي" يصبح الأمر غريبا ومثيرا للتساؤلات، ولم يكن متوقعا وجود هذا الاتجاه القوي في الشارع الفرنسي والمعارض للدستور. وتذهب استطلاعات الرأي العام في الأسابيع الأخيرة إلي إعطاء الاتجاه الرافض للدستور نسبة تفوق ال 50% الأمر الذي يعني أن الاستفتاء قد يسفر عن: لا نرفض الدستور بل وايضا وضمنيا نرفض استمرار جاك شيراك رئيسا للجمهورية أو علي الاقل توقف طموحاته في كسب جولة ثالثة، وهو الأمر الذي لم يحققه زعيمه شارل ديجول ولا حتي منافسه الاشتراكي الرئيس فرانسوا ميتدان . ويقارن البعض بين المناخ الذي يجري فيه الاستفتاء الحالي في فرنسا حول الدستور الأوروبي وارتباط ذلك بمصير الرئيس جاك شيراك نفسه واستفتاء مماثل جري منذ قرابة أربعة عقود وتحديدا 1968 حينما طرح الجنرال شارل ديجول رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت بعض التعديلات الخاصة بالدستور الفرنسي، وكان ذلك في أعقاب ثورة الطلبة التي تفجرت في أوروبا وفرنسا بشكل خاص في كل الأيام. أيامها حصل الجنرال علي الأغلبية التي أقرت التعديلات المقترحة، ولكنها كانت أغلبية ضئيلة وهامشية لا ترضي غرور وطموح جنرال فرنسا التاريخي فقدم استقالته وترك نائبه جورج بومبيدو يكمل المدة. ويذهب البعض إلي أن الاتجاه الرافض للدستور الأوروبي في فرنسا أكبر بكثير من حجم ونفوذ الجهة الوطنية وزعيمها لوبان وشعاراته القومية الأقرب إلي الفاشية والمعادية للأوروبية وللأجانب، رغم أن الجهة الوطنية استطاعت أن نحصل في الانتخابات البرلمانية السابقة علي حوالي 25% من الأصوات خاصة وهي تحمل الأجانب الوافدين من الجنوب "الشمال الأفريقي" أو من الشرق الأوسط مسئولية الخلل الذي جري في الاقتصاد والمجتمع الفرنسي الذي تصل نسبة البطالة فيه الي 7.11%. والظاهرة الغريبة في الاستقطاب الجاد الذي يجري في المجتمع الفرنسي حول الدستور الأوروبي، أنه ليس استقطابا حزبيا أو حتي طبقيا، ولكنه استقطاب رأسي بمعني أن الأحزاب نفسها منقسمة حول الموضوع، بينما يعارض غالبية الاتحادات العمالية واتجاهاتها اليسارية الدستور ويقفون الي جانب الجهة القومية باتجاهاتها الفاشية من منطلقات وأسباب مختلفة. نري الحزب الاشتراكي المعارض وكذلك أحزاب الخضر وأحزاب اليمين الديجولي تساند الدستور، بينما ينقسم الحزب الشيوعي علي نفسه: بل ان صحفا لها تراثها الأوروبي الطويل مثل ليموند والفيجارو تمتلئ بأعمدة الرأي والتحليلات المتناقضة.. ولا تخفي الصحف وأجهزة الإعلام الأمريكية، وفي تصريحات بعض المسئولين الأمريكيين، الشماتة وهي تتعرض لما نسميه أزمة شيراك. والأسباب كثيرة وعلي رأسها طبعا الموقف الذي يتخذه شيراك في مواجهة بعض السياسات الأمريكية وتزعمه الجبهة الأوروبية الرافضة للغزو الأمريكي علي العراق وسياسات الهيمنة والسيطرة، لذلك لم يكن غريبا أن تخصص مجلة النيوزديك الأمريكية عددا أخيرا لها في حملة ضارية ضد شيراك الذي وصفته بالديناصور المغرور.