في أول خطاب له أمام البرلمان الأوروبي بعد أن تولي رئاسة الاتحاد، قدم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا ما يمكن أن نسميه برنامج عمل للمرحلة القادمة. وتأتي أهمية هذا البرنامج بعد التطورات المثيرة التي أعقبت رفض الشعب الفرنسي والشعب الهولندي للدستور الأوروبي الجديد ثم ما تلا ذلك من فشل قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة في الاتفاق علي المشروع الجديد للميزانية الأمر الذي دفع ببعض الدوائر، خاصة الأمريكية، إلي توقع حدوث خلل كبير في آليات، الاتحاد الأوروبي مما يؤثر علي دوره الإقليمي والعالمي في المرحلة القادمة. ركز بلير في مشروعه علي ثلاث قضايا رئيسية هي بالترتيب افتقاد القيادات السياسية الأوروبية إلي منهج واقعي شامل أو ما أطلق عليه بالسماح باختطاف الحلم الأوروبي علي يد بعض الأجهزة البيروقراطية، ثم السياسة الاقتصادية للاتحاد خاصة فيما يتعلق ببنود الميزانية سواء منها المقدم لمساعدة الدول الجديدة المنضمة إلي الاتحاد أو المساعدات والتسهيلات الكبيرة التي تقدم للزراعة والمزارعين الأوروبيين، ثم أخيراً عدم التوازن في المساعدات التي تقدمها بعض الدول لميزانية الاتحاد. والغريب في الأمر أن يتفق توني بلير في مشروعه الجديد مع التوصيفات التي قدمها قائد وسياسي بارز من الذين أسهموا في وضع أسس الاتحاد الأوروبي وهو هيلموت شميث مستشار ألمانيا الأسبق، ففي تصريحات أخيرة له عزي شميث الأزمة الحالية التي يمر بها الاتحاد الأوروبي إلي جمود وجموح بعض القيادات السياسية التي نست أن أوروبا احتاجت حوالي الألف عام لتشكل دولها القومية، ولا يمكن تصور اكتمال أوروبا الموحدة خلال عقدين أو ثلاثة.. كما أشار شميث إلي التعاون الكبير في الأداء الاقتصادي بين دول الاتحاد خاصة بعد انضمام عشر دول من شرق ووسط أوروبا مؤخراً، كذلك ارتفاع غير مسبوق لمعدلات البطالة التي وصلت إلي آفاق لم تصل إليها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إضافة إلي الوحدة النقدية (اليورو) والمواجهة الشرسة في الأسواق العالمية من جانب أمريكا والصين والهند. وتوني بلير هو المتهم الرسمي الأول من جانب القيادات الألمانية والفرنسية بأنه السبب في إفشال القمة الأوروبية الأخيرة، وفرنسا وألمانيا تمثلان حتي الآن القاطرة الدافعة للاتحاد منذ بدأ تنفيذ فكرة جون مونبيه سنة 1954 بتشكيل جبهة متحدة من أربع دول زادت إلي سبع حول سياسة الصلب والفحم مروراً لفترة السوق المشتركة وحتي معاهدة ماسترضت التي دشنت قيام الاتحاد الأوروبي. والمشروع البريطاني لأوروبا يعتبر أول طرح متكامل تقدمه بريطانيا منذ انضمامها إلي السوق المشتركة سنة ،1973 وهو تأكيد للدور البريطاني المتنامي في مواجهة التصورات والرؤي الألمانية والفرنسية التي كانت سائدة طوال الفترة الماضية. ومن الواضح أن توني بلير قد ضرب ضربته إذا صح التعبير سواء في معارضة مشروع الميزانية أو في تأجيل التصويت البريطاني علي الدستور الأوروبي إلي أجل غير مسمي، وقبل ذلك استمرار رفض بريطانيا الانضمام إلي اليورو والاحتفاظ بالاسترليني، وهوفي وضع أفضل بكثير من منافسيه التقليديين الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني جيرهارد شرويدر اللذان دفعا بوضوح هذه السياسات البريطانية الموالية لأمريكا من وجهة نظرهم علي حساب المصالح الأوروبية. لقد كسب بلير الانتخابات البريطانية الأخيرة وللمرة الثالثة، ورغم أن الأغلبية التي كان يتمتع بها تضاءت، ولكنها ظلت أغلبية مريحة وكافية لمواصلة مشواره السياسي، بينما تعرض الرئيس الفرنسي جاك شيراك لنكسة خطيرة حين خسر معركة الاستفتاء علي الدستور الأوروبي والذي اعتبره البعض استفتاء علي استمرار شيراك رئيساً للجمهورية، كما خسر شرويدر حزبه الاشتراكي الديموقراطي سلسلة من الانتخابات التي جرت في عدد من الولايات كان آخرها خسارته في أحد معاقله السابقة وهي ولاية سكسونيا أنهالت وخسر بذلك أغلبيته في البوندسرات أي مجلس الولايات الأمر الذي دفعه إلي الإعلان عن انتخابات مبكرة قد تجري في سبتمبر المقبل، وهناك مؤشرات كثيرة تؤكد أنها ستطيح بشرويدر وحكومته. كذلك فإن توني بلير، الذي انتقد كثيراً التسرع الألماني الفرنسي في الوحدة الاقتصادية وإلغاء العملات المحلية واعتماد اليورو، وتمسكه بالجنيه الاسترليني حافظ علي معدلات معقولة في النمو ان نسب التضخم والبطالة المتدنية مقارنة بآفاقها العالية وغير المسبوقة في ألمانيا وفرنسا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي.