أصبحت «السيرة الذاتية» في السرد الروائي المعاصر، منهجا وأسلوبا ملحوظا للعديد من الروايات المصرية التي ظهرت في العقدين الأخيرين.. ويعتبر فتحي غانم برواياته الشهيرة رائدا في هذا المجال، من الرجل الذي فقد ظله، إلي تلك الأيام، وزينب والعرش.. حيث تبرز تجربته كأحد العاملين في كواليس الصحافة ومواقع اتخاذ القرار. وكان عبدالحكيم قاسم رائدا أيضا في هذا المجال بروايته العظيمة «أيام الإنسان السبعة» ففي كل هذه الروايات التي استخدمت أسلوب السيرة الذاتية في السرد الروائي، كان الهدف هو أسر القارئ داخل مصداقية «الأنا» التي تحكي عن نفسها، تفاصيل التجربة المعاشة، وهذا الأسلوب سهل وخطير في الوقت ذاته، فإذا لم يفلح الكاتب في إقناع القارئ بالتجربة الإنسانية التي يرويها، وإذا لم يستطع أن يتجاوز الخاص إلي العام، ليصبح الهم الخاص، هو هم المجتمع كله، فستتحول الرواية كلها إلي بناء مفكك يحكي «حواديت» أو انطباعات شخصية لا تهم أحدا سوي كاتبها. ومن أشهر روايات «السيرة الذاتية» في الرواية العالمية، رواية «قصة شاب» للألماني «هيرمان هيسة» ورواية «طوينو كروجر» لتوماس مان وهو ألماني أيضا، وقد قام بترجمتها الكاتب الكبير يحيي حقي.. واستخدام صيغة «الأنا» في السرد الروائي لا يعتبر في حد ذاته «سيرة ذاتية» صريحة، فرواية ديفيد كوبر فيلد الشهيرة لتشارلز ديكنز الإنجليزي ليست سيرة ذاتية للكاتب، وكذلك رواية «جاتسبي العظيم» للأمريكي سكوت فيتزجيرالد لا تعتبر أيضا رواية رغم أنها تتبني صيغة «الأنا» المحك الأساسي لاعتبار الرواية سيرة ذاتية، حتي ولو لم تكن مكتوبة بصيغة الأنا هو أن يروي الكاتب عن نفسه دقائق حياته ويحكي الأشياء التي أثرت في مسار حياته، والمثل الأبرز هنا هو «رباعية الإسكندرية» للإنجليزي لورانس داريل.. وفي رواية عاطف فتحي «حياة عادية» التي صدرت عن سلسلة روايات الهلال في ديسمبر 2010 (العدد رقم 744) أي قبل ثورة يناير 2011 بشهر واحد، يحكي الروائي وهو البطل قصة حياة جيله، جيل الأربعينيات، الذي استيقظ وعيه علي قيام ثورة يوليو 1952، التي تبنت أحلام الطبقات الشعبية في العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني. مهمات الثوار ومن مفارقات الرواية، أن البطل وأسرته - وهم من سكان القاهرة القديمة بحي الحسين والغورية - يصبحان من ضحايا الثورة بشكل غير مقصود.. فوالد البطل - الراوي - صانع الطرابيش، تنتهي مهنته بقيام الثورة، ويصبح عاطلا يعاني الفقر والحرمان بعد أن كان ميسور الحال، فالثورة ألغت لبس الطرابيش في الدواوين الحكومية، حيث إن الطرابيش هي رمز الانتماء للدولة العثمانية التركية.. وهكذا فبدلا من أن تحقق الثورة أحلام الراوي «الصبي» آنذاك.. انتهي به إلي العوز والحرمان والتفكك الأسري.. ورغم ذلك فقد كان الأب صانع الطرابيش الذي تحول إلي موظف في مصانع «المهمات» التي أنشأتها الثورة في ثكنات المعادي لاستيعاب المهنيين الضائعين من أمثاله، كان هذا الأب هو أول من تطوع للقتال في بورسعيد دفاعا عن الثورة والوطن المهدد في أثناء العدوان الثلاثي الغادر علي مصر عام 1956 في أعقاب تأميم قناة السويس. تمضي بنا الرواية لتحكي هموم ذلك الجيل الذي عايش ثورة يوليو وتحولاتها لتحقيق العدالة الاجتماعية كما كانت تراها، وإخفاقاتها وهزائمها في 1967 وقد حمل ذلك الجيل - الذي يمثله الراوي - علي عاتقه عبء إزالة آثار الهزيمة باسترداد الأرض السليبة، في حرب أكتوبر عام 1973، لكنه للأسف لم يهنأ بإنجازات واستحقاقات النصر علي العدو الصهيوني، حيث سرقت منه مكاسب تلك الحرب خلال التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاشتها مصر في أعقاب الانفتاح الاقتصادي عام 1974 الذي كان فاتحة صريحة للتحول إلي الرأسمالية واقتصاد السوق، وإعلان واضح عن التبعية للولايات المتحدةالأمريكية وسياساتها، والذي توج باتفاقات سلام كامب ديفيد عام 1977 الذي أهدر تماما نصر أكتوبر والدماء الغالية التي بذلت في سبيله. الأدني والأعلي هذه الرواية - حياة عادية - تحكي «بطل من زماننا» بطل يعيش التحولات العنيفة التي يمر بها وطنه مصر، عبر نصف قرن من الزمان، ففي الوقت الذي نري فيه تجربته الخاصة مع الحياة والموت، والحب والحرمان - الموضوعات الرئيسية في الفن والحياة - تنعكس التجربة العامة والتاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر كلها، وتبرز حيوية وأصالة الشخصيات التي تضع الأحداث وتتمحور حولها مثل شخصية «العم يوسف» ساعاتي شارع محمد علي «اليساري» الذي اعتقل مرارا في عهد عبدالناصر وشخصية «الأم» التي تصعد من أدني درجات السلم الاجتماعي لتصل مع وصول الانفتاح الاقتصادي إلي قمة الهرم الطبقي من يحث الثروة والنفوذ وشخصية الجدة التركية الأصل «أم يوسف» التي تمثل رمزا للطيبة والصبر والصمود في وجه المحن.. وتمثل - بالنسبة للروائي - بديلا مثاليا للأم التي فقدها في زحام مشاغلها المادية. وكذلك شخصيات المقاتلين البواسل والجرحي والشهداء «أحمد الفينو» الإسكندراني، وعادل برسوم القبطي الصعيدي، أبطال حرب أكتوبر 1973 الذين غسلوا عار الهزيمة بدمائهم ولم يذكرهم أحد فالجنود هم مجرد أرقام تحت نصب «الجندي المجهول». هذه الرواية هي حكايات ثرية، عن حيوات إنسانية غير عادية، فالعنوان الذي تعلن به الرواية عن نفسها «حياة عادية» هو مجرد فخ أو شرك أو سخرية مستترة لأن الجيل الذي يتحدث عنه الراوي لم يعش أبدا حياة عادية. وتعتبر هذه الرواية امتدادا لروايته الأولي «حكايات حوش آدم» التي فازت بجائزة نادي القصة عام 1998 ونشرت ضمن منشورات النادي حيث يروي الكاتب أجزاء من طفولته وصباه في بيت جدته لأمه في حارة خوش قدم. يستفيد الكاتب من خبرة تمرسه بتكنيك القصة القصيرة، حيث صدرت له مجموعتان قصصيتان «أغنية للخريف 1997» و«لماذا تغرد العصافير 2010» بكل ما يتميز به هذا التكتيك من اقتصاد وتركيز وتقصي للتفاصيل الدقيقة.ويستفيد الكاتب من خبرته بأساليب السرد السينمائي، فالكاتب دارس للسينما ويمتهن النقد السينمائي عملا من خلال صياغته الفنية لمشاهد روايته وتوظيفه للضوء والظلال والألوان والإيقاع والعودة للماضي ورؤي الأحلام ويستقيم لأسلوبه النابع من الرغبة في البوح والمصارحة درجة عالية من التدفق السلس الرصين الكاشف البسيط. حياة عادية هي مرثية لجيل ضاع في خضم صراعات أكبر منه.. تري هل آن أوان احتشاد الكاتب بكل قواه الروحية لاجتياز محنة خروج الذات من نفق الموت الفردي الطويل والخروج للحياة.