النتائج غير الحاسمة للانتخابات العراقية وعجز أي كتلة سياسية عن تشكيل الحكومة الجديدة وحدها، أفرز أزمة سياسية داخلية مفتوحة علي تأثيرات وتدخلات خارجية تعمل علي المساهمة في صنع شكل الحكومة الجديدة، التي ستعبر عن توازنات القوي بين الأحزاب والكتل السياسية العراقية والقوي الإقليمية والدولية. أهم المشاهد السياسية في العراق والتي تعبر عن حالة التباين والتوازنات ما حدث الأسبوع الماضي، حين توجه رئيس الجمهورية جلال طالباني إلي إيران للمشاركة في احتفالات عيد النيروز مع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، فيما توجه وزير الخارجية «هوشيار زيباري» إلي الجماهيرية الليبية للمشاركة في اجتماعات القمة العربية، في الوقت الذي بقي فيه رئيس الحكومة نوري المالكي في بغداد محاولا البحث عن كتل سياسية تقبل الانضمام إلي كتلة دولة ائتلاف القانون التي فازت ب 89 مقعدا في البرلمان، وبحيث تتمكنان معا من ضمان غالبية برلمانية تؤيد هذه الحكومة. دلالات المشهد وهذا المشهد الموزع ما بين طهران وسرت وبغداد، يبرز إلي حد كبير أبعاد الصراعات والمناورات السياسية التي يعيشها العراق، فتوجه طالباني إلي إيران أبرز الأهمية الكبري التي يوليها العراق لإيران التي أصبحت عمليا صاحبة أكبر نفوذ سياسي في العراق، وبالتالي فإن زيارة «عيد النيروز» كانت مناسبة للبحث عن التأييد الإيراني للعملية السياسية في العراق، وصيغة التقاسم المماثلة للصيغة اللبنانية، حيث أصبح مستقرا في العراق أن يكون رئيس الجمهورية كرديا ورئيس الوزراء شيعيا ورئيس البرلمان سنيا، والمشكلة أن هناك قوي سياسية جديدة تدعو لأن يكون رئيس الجمهورية «عربيا» سنيا أو شيعيا، وهو خطاب طائفي تحريضي ضد الأكراد. وعلي الرغم من ضعف هذا التيار فإن عودة الحديث عن إعادة النظر في صيغة التقاسم وتوزيع السلطات الثلاث بين الطوائف الرئيسية، يشكل خطورة علي البنيان السياسي الجديد، ويعيد الخطاب الطائفي إلي الصدارة من جديد، بعد أن تخطي العراق هذه المرحلة بثبات. وعلي كل حال فإن دعوة إيران للرئيس العراقي في أعقاب نتائج الانتخابات كانت بمثابة تأييد إيراني لهذه الصيغة العراقية في الحكم، واعترافا بأن حل المشكلة الكردية يكمن في بقاء أكراد العراق ضمن الدولة العراقية الموحدة، وحتي لا يفتح باب تقرير مصير الأكراد الموزعين أساسا ما بين العراق وإيران وتركيا، وهي قضية خامدة تنتظر دائما من يشعلها. وبالإضافة إلي هذا الدعم فقد شهدت طهران فرصة لالتقاء طالباني مع الزعيم الشيعي مقتدي الصدر وهو شريك في الائتلاف الوطني العراقي بزعامة عمار الحكيم وحصل هذا الائتلاف علي 70 صوتا في المركز الثالث، ويرفض هذا الائتلاف الانضمام إلي حكومة يترأسها نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون الذي حصل علي 89 مقعدا في المركز الثاني، ويميل إلي المشاركة في ائتلاف مع تحالف العراقية الذي يقوده اياد علاوي0 تسوية وتبدو طهران اقرب إلي تسوية تسمح بمشاركة ائتلاف أوسع يضمن مشاركة الكتل الأربع الكبري، وإلي طرح اسماء اخري لمنصب رئيس الحكومة منهم عبد المهدي نائب الرئيس العراقي الذي يحظي بتأييد أكبر من نوري المالكي وحتي اياد علاوي. وتبدو القوي السنية التي عادت للمشاركة في الانتخابات الاخيرة بفاعلية ضمن عدة قوائم أهمها ائتلاف العراقية، اقرب إلي تأييد حكومة برئاسة علاوي أو عبد المهدي، فيما يرفضون المشاركة في حكومة يترأسها نوري المالكي اعتراضا علي سياسات طائفية، وعمليات تمييز ضد السنة، ومطاردة لقيادييهم وكوادرهم السياسيين تحت لافتة «اجتثاث البعث» التي أصبحت مبررا للخلاف من المعارضين السياسيين في السنة0 الدور العربي أما التمثيل العراقي في القمة العربية المحدود والمقصور علي وزير الخارجية فهو انعكاس لقيمة وأهمية الدور العربي الذي لم يتحول في أي وقت إلي «حضانة» للعراق في ظل تعرضه للاحتلال، وانما تحولت دول مجاورة إلي ساحة لانطلاق العمليات الارهابية، واخيرا عدم قيام معظم الدول العربية بافتتاح شعارات لها في بغداد. وفي ظل هذه الاجواء فإن المالكي في بغداد يحاول الحفاظ علي مقعد رئاسة الحكومة الذي يوشك أن يفقده، وهو لم يتوقف عن الادعاء بحدوث تزوير في العملية الانتخابية، وعن ضغوطات من الخارج، ويحاول في نفس الوقت اقناع بقية الكتل بالانضمام إليه لدعم التشكيل الحكومي الجديد علي أسس مرحلة جديدة تبدأ بالاستعداد لزوال الاحتلال نهائيا في نهاية العام القادم0 وحتي الآن فإن توازن القوي لم يسفر عن ظهور كتلة حاسمة، في ظل استمرار المشاورات والمناورات والضغوطات التي يبدو أنها ستطول، وستطول معها أزمة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.