إجراء الانتخابات البرلمانية العراقية حتي بهذا القدر من الضحايا (38 قتيلا و110 مصابين) يعتبر انتصارا كبيرا للشعب العراقي، الذي سجل نسبة اقبال كبيرة فاقت الانتخابات السابقة التي اجريت في 2005 ، حيث عاد «السنة» للمشاركة بقوة هذه المرة في إطار محاولة جدية لاستعادة مشاركتهم في الحياة السياسية، وفي عملية التحول الديمقراطي، خاصة أن ايام الاحتلال الأمريكي توشك علي الانتهاء مع بدء تخفيض قوات الاحتلال إلي النصف في يوليو القادم تمهيدا لخروجها بالكامل في نهاية العام القادم. وبذلك فإن أولي النتائج التي أسفرت عنها تلك الانتخابات هي نفسها اجراؤها في ظل تحديات كثيرة اخطرها تهديدات تنظيم القاعدة (فرع بلاد الرافدين) وفلول الجماعات البعثية لتوجيه ضربات قاصمة في هذا اليوم، وهي نجحت جزئيا في إطلاق قذائف الهاون علي عدة مواقع بشكل عشوائي، واختطلت أصوات تكبيرات المآذن ومناشدة الشيوخ للمواطنين للإدلاء بأصواتهم مع أصوات قذائف «الهاون» ، وصراخ أهالي ضحايا القتلي والمصابين، ومشاهد الدماء التي أصبحت شيئا عاديا في الحياة اليومية العراقية منذ الاحتلال الأمريكي في مارس 2003، وما يجعل هذا الشعب صابرا علي تلك المشاهد والتفجيرات الدموية، هو تطلعه إلي امكانية توقف ذلك كله وهزيمة الإرهاب والعنف ، وانتصار العملية السياسية التوافقية، حتي وأن شابها كثير من الخلافات والانشقاقات والصراعات السياسية، والاعتماد في كثير من الأحوال علي الدعم الخارجي بكل اشكاله، حيث اصبح العراق منذ أن تم احتلاله ساحة لصراعات إقليمية ودولية حادة أثرت بلا شك علي امكانية تطوره السياسي واستعادة أوضاعه الطبيعية. لا أغلبية لقائمة واحدة وعلي الرغم من أن النتائج النهائية للانتخابات تحتاج إلي عدة أيام لإعلانها، إلا أن المؤشرات الأولية تشير إلي صعوبة فوز قائمة واحدة بالأغلبية التي تمكنها من تشكيل الحكومة الجديدة، علي الرغم من أن القوائم المتنافسة هي اصلا جبهات سياسية تضم عدة أحزاب أهمها وفي المقدمة ائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس الحكومة الحالي نوري المالكي، وهذا الائتلاف يضم 40 حزبا وحركة سياسية يتصدرها حزب (الدعوة) الذي يترأسه أيضا (المالكي) وعلي الرغم من أنه حزب ذو صبغة دينية شيعية، إلا أن هذا الائتلاف يتبني شعارات تركز علي أهمية الدولة وتأكيد المواطنة وسيادة القانون وهي شعارات تجد صداها لدي المواطن العراقي، الذي يتطلع إلي توافق سياسي عابر للطائفية وهو ما يحققه هذا الائتلاف الذي يضم بعض المكونات الأخري كالسنة والأكراد والتركمان، وهو ما مكن هذا الائتلاف ايضا من الفوز في الانتخابات المحلية العام الماضي، ولابد أن نجاح حكومة المالكي في تحسين الأحوال الأمنية والاقتصادية وعودة كثير من المرافق الحيوية الأساسية للعمل بكفاءة، وعودة الصادرات النفطية العراقية إلي الحجم الذي كانت عليه قبل الغزو مع تطويرها بفضل العقود الجديدة لتحسين المنشآت النفطية، رغم ما شاب تلك العقود أيضا من عمليات فساد وعمولات. فيدرالي غير طائفي والتوقعات تشير إلي تحالف ائتلاف دولة القانون مع التحالف الكردستاني الذي يضم الحزبين الكبيرين الديمقراطي بزعامة رئيس اقليم كردستان مسعود البرزاني والوطني الكردستاني بزعامة رئيس الجمهورية جلال الطلباني، حيث يضمن هذا التحالف استمرار الحفاظ علي التطور السياسي لإقليم كردستان في ظل نظام فيدرالي غير طائفي.. ولا يتوقع المراقبون مشاركة الأحزاب السنية في الائتلاف الحكومي الجديد، علي الرغم من مشاركة القوائم السنية بفاعلية في تلك الانتخابات، إذ لاتزال هناك هوة كبيرة تفصل الأحزاب السنية عن امكانية التعاون مع الكتل السياسية الممثلة للشيعة والأكراد علي وجه الخصوص في ظل فقدان السنة لمواقعهم التقليدية التي احتفظوا بها منذ تأسيس العراق عام 1921، إذ توقع رئيس مجلس النواب العراقي الذي انتهت مدته أياد السمرائي، أن تتضاعف الانقسامات الطائفية إذا لم تضع الحكومة الجديدة حدا للتمييز في تقديم الخدمات العامة وفي أجهزة الأمن. ومن غير المتوقع ايضا أن تنجح قائمتا السنة برئاسة رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي، والأخري برئاسة وزير الداخلية جواد البولاني في الاتفاق معا لتكوين قوة سياسية تدخل الائتلاف الحكومي في ظل رفض الكتلتين لسياسات التفاهم بين كتلة (المالكي) وتحالف (الأكراد) علي وجه الخصوص. يبقي أن كل الأطراف الإقليمية والدولية استطاعت أن تحقق مكاسب لها في تلك الانتخابات، فالأحزاب المدعومة من إيران استطاعت الحفاظ علي مواقعها القوية وأبقت علي النفوذ الإيراني قويا وهو ما عبر عنه الزعيم الشيعي (مقتدي الصدر) في رسالته لأتباعه في طهران بضرورة المشاركة في العملية السياسية، فهو ما يعكس اهتمام إيران بالأوضاع السياسية في العراق، وحرصها علي وجود حكومة صديقة لها في بغداد. مكاسب لسوريا وسوريا التي حرص معظم قادة الكتل العراقية علي زيارتها، حققت أيضا مكاسب مهمة بعودة السنة للمشاركة بقوة في العملية السياسية، والعودة للتعاون مع الحكومة العراقية لضبط الأمن علي الحدود بين البلدين، والاعتراف بأهمية الدور السوري في المنطقة وعدم امكانية تجاوز هذا الدور. وتشعر أيضا دول مجلس التعاون الخليجي تتقدمها السعودية بالراحة لإتمام الانتخابات العراقية، واستمرار حلفاء الدول العربية الخليجية في مواقع الحكم، والتنسيق معها في قضايا النفط والترتيبات الأمنية الجديدة في ظل امكانية تصاعد الأزمة مع إيران. اما الولاياتالمتحدة فهي وقد حققت كل أهدافها من وراء غزو العراق وحصلت علي اتفاقية أمنية تحفظ تواجدها العسكري تستعد لسحب معظم قواتها من العراق، وبالتالي تقليص نفقاتها العسكرية وتوجيه الجهد الرئيسي ناحية افغانستان التي تحولت إلي عملية استنزاف بلا حدود لها. ضمانة التوافق وفي ضوء تتابع الكشف عن نتائج الانتخابات العراقية ، فتأتي صيغة «لا فائز مطلق ولا مهزوم مطلق» لتصبح ضمانة لاستمرار التوافق بين الكتل السياسية العراقية علي دعم العملية السياسية الجديدة، وهو ما يتطلع إليه الشعب العراقي لبناء دولة القانون والمواطنة بعد معاناة مستمرة مع الديكتاتورية والإرهاب والاحتلال والطائفية والفساد، وعنصر واحد من ذلك كفيل بهدم أي أمة في العالم فما هو الحال وقد تعرض العراق لذلك كله وأحيانا معا في الوقت ذاته.