من كان يتصور أن تتأخر نتائج انهيار الاتحاد السوفيتي عشرين عاما لتقرر الولاياتالمتحدة ان تعود إلي زعامة "العالم الحر"؟ من كان يتصور ان دول النفط العربية يمكن ان تساهم باموالها وبمصائر شعوبها في تأكيد زعامة أمريكا للعالم الحر؟ بل من كان يمكن ان يخطر بباله مجرد خاطر ان تتمكن الولاياتالمتحدة من تحويل حلف الاطلنطي الذي انتهت مهمته التي انشيء من اجلها - وهي التصدي للاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية علي الصعيد العسكري- إلي اكبر جهاز لتقديم المساعدات العسكرية الي ثورات الوطن العربي المتعددة والمفاجئة فيسلمها الي التيار الديني والي تنظيم القاعدة العتيد الثوري ليتفوق علي كل التيارات الاخري اليسارية والليبرالية؟ ولولا ان مصر تستعصي علي الابتلاع لكان من الممكن ابتلاع ثورتها بالكامل وتحويلها الي لقمة سائغة للنفوذ السعودي القطري الأمريكي الاطلنطي. لولا ان مصر كبيرة وقوية سياسيا وثورتها قادرة علي الاستمرار وتخطي كل مؤامرات الابتلاع لكان من الممكن ان يستولي التيار الديني علي الثورة ويعلنها اسلامية تتخطي كل الحدود السياسية وتستغني عن العدالة الاجتماعية فتعلن هدفها وهدف كل مؤيديها ترك امور الدنيا كلها للقادرين عليها- أمريكيين كانوا او سعوديين وقطريين - والتوجه نحو غايات الدين بل نحو الغاية القصوي وهي الجنة. أهداف يناير ومن قال ان هذا لايحدث الآن بينما تكتب هذه السطور المتهمة بالكفر والابتعاد عن الدين واهدافه من اجل الالتفات الي اهداف دنيوية اعلنتها ثورة 25 يناير 2011 من العيش والحرية والديمقراطية الي العدالة الاجتماعية والقضاء علي الفساد؟ من قال ان أمريكا وقيادة اركانها العربية المتمثلة في ملوك وحكام المملكة العربية السعودية وقطر والامارات ...الي اخر منظومة التحرريين الجدد، قد تخلت عن هدف ابتلاع الثورة المصرية واهدافها وتحويلها الي جزء من العالم الحر الذي تهيمن عليه القوة الأمريكية بمساعدة عربية لا شك في اسلاميتها ومهما كان الشك في اخلاصها لانتمائها العربي. ان الولاياتالمتحدة لا تكف عن الضغط علي الثورة المصرية ولا تكف عن تحريض رئاسة الاركان السعودية علي اتباع كل اساليب الاقتراب والتقرب ثم الابتعاد والتبرؤ من مصر الثورة تساعدها وتستسلم لاهدافها قوي الداخل المصري التي عادت مؤخرا من السعودية وقد امتلات رئتاها بهواء المعتقدات الوهابية المقاومة للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية باعتبار شعارات الكفر والكفار التي تعلمتها مصر من ثورة اجرامية حكمت مصر طوال عهد جمال عبد الناصر؟ من قال ان مصر الثورة لا تزال هدفا لا تحيد عنه زعيمة العالم الحر الولاياتالمتحدةالأمريكية واركان حربها العربية؟ ملاحقة الثورة ليس من المتصور بعد ان اصبحت الولاياتالمتحدة تعتقد انها تنفرد بزعامة العالم كله ان تتراجع عن ابتلاع ثورة مصر الداعية الي اهداف ناصبتها أمريكا العداء طوال اربعين عاما - هي فترة حكم انور السادات وحسني مبارك. هذان توليا بالدعم الأمريكي والرضوخ لاسرائيل والسعودية تصفية ثورة 23 يوليو 1952 ومبادئها واهدافها لمصلحة راس المال الأمريكي ونفوذه ونفوذ السعودية والخاضعين لتوجيهاتها واموالها. توليا دعم ومساندة الخاضعين لفساد راس المال الاجنبي والمحلي. توليا ايضا دعم ومساندة الخاضعين للفساد باجنحته الثقافية والتعليمية فضلا عن المالية والاقتصادية. توليا علي مدي اربعين عاما من الصداقة مع أمريكا واسرائيل دعم ومساندة الخاضعين لكل ما انفجرت ثورة 25 يناير 2011 من اجل تخليص مصر منه. الواقع ان أمريكا لم تكف ولن تكف عن ملاحقة ثورة مصر لاخضاعها علي النحو نفسه الذي تم به اخضاع ثورة ليبيا ولا يزال العمل مستمرا من اجل اخضاع ثورات سوريا واليمن وتونس. تؤازرها في ذلك الكيانات العربية التي تريد ان تبقي الثورات العربية بعيدة عنها تحاصرها الافكار الدينية ذات التفسيرات المناهضة للحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية. الدليل الاكبر علي نية الولاياتالمتحدة مواصلة العمل علي ابتلاع ثورة مصر وثورة سوريا واليمن والبحرين وتونس هو ما اظهرته الولاياتالمتحدة فجأة من استعداد لتبني التيارات والتنظيمات الدينية التي تقاوم هذه الثورات في الداخل. لم يكن احد ليتصور ان تبدي الولاياتالمتحدة كل هذا الاستعداد لتسليح التنظيمات الاخوانية والقاعدية في ليبيا وفي اليمن وفي سوريا وان تتعانق مع من كانت الي وقت قريب تسميهم بالارهابيين والمتطرفين الاسلاميين. ولكن لا بد لنا ان نتذكر جيدا ان الولاياتالمتحدة سبق ان تحالفت مع هؤلاء المتطرفين الارهابيين الاسلاميين عندما كانت تري في هذا التحالف وسيلتها الي دحر المناهضين لها. فعلت ذلك في افغانستان بالتحالف مع تنظيم القاعدة ضد حكومة كان يدعمها السوفيت عسكريا واقتصاديا. وفعلت ذلك عندما تحالفت مع التنظيمات الاسلامية في اندونيسيا في الستينات من القرن العشرين ضد حكم الرئيس الاندونيسي سوكارنو المتحالف مع القوي التقدمية المناهضة لأمريكا والهيمنة الأمريكية علي منطقة جنوب شرق اسيا. التحالف مع المتطرفين اليوم تعود أمريكا الي سياسة التحالف مع المتطرفين الاسلاميين الذين ساهمت الثورات العربية في اطلاق قواهم السياسية والتنظيمية من عقالها. وربما لا تكون هذه العودة الي سياسات أمريكية سابقة ناتجة عن تجارب الماضي فحسب كما حدثت في اندونيسيا وبعد ذلك في افغانستان، انما هي ناتجة في الوقت الحاضر من بروز قوة الصين الاستراتيجية والاقتصادية الي حد يهدد بقاء أمريكا في المركز الاول استراتيجيا واقتصاديا في هذا العالم. فاذا ما بدا ان الصين وروسيا الاتحادية تعيدان عهد التحالف الصيني السوفيتي استراتيجيا وسياسيا حفاظا علي مصالحهما فان أمريكا تبدي حماسا لتعزيز قوي التطرف الديني (خاصة المسلح) في المناطق التي تشكل اهم منابع الطاقة التي لا تزال تعتمد عليها في تسيير كل ما يتحرك في الولاياتالأمريكية. ان أمريكا تبني في داخل دول "ثورات الربيع العربي" قوي تستطيع ان تناهض التحالف الصيني الروسي اذا حان وقت للمواجهة مع هذا التحالف. ليس في كل خطوات الولاياتالمتحدة في الوقت الحاضر نحو ابتلاع الثورات العربية وتحويلها الي الوئام مع السعودية وممالك البترول الخليجية ما يمكن ان يجعل ايا من المتحمسين للثورات الحقيقية في الوطن العربي يطمئن الي السلوك الاستراتيجي والسياسي الأمريكي في هذه المنطقة. إعادة الهيمنة ان الولاياتالمتحدة تعيد تشكيل استراتيجيتها العالمية علي نحو يجعلها تبدو مرة اخري اكثر تصميما من اي وقت مضي علي اعادة هيمنتها. وهي اذا كانت تبدأ هذه الاستراتيجية الجديدة /القديمة في المنطقة العربية فلان المنطقة العربية تبدو اكثر استعداد للتغيير باتجاه الرضوخ للهيمنة الأمريكية. ولكن هذا لا ينفي القول بان الولاياتالمتحدة ستكون مستعدة لفتح ابواب الحرب - الباردة وحتي الساخنة - اذا لزم الامر في مناطق اخري ذات اهمية خاصة لها. علي سبيل المثال فان أمريكا اللاتينية التي حقق فيها اليسار انتصارات سياسية لا تقل تأثيرا عن الثورات يمكن ان تتحول فجأة الي ميدان آخر للانقضاض الأمريكي خاصة عندما تتمكن الولاياتالمتحدة من ايجاد حلفاء لها ضد الانظمة الثورية واليسارية التي وجهت ضربات قاصمة للاحتكارات الرأسمالية الأمريكية في أمريكا اللاتينية. وما ينطبق علي المنطقة العربية وعلي أمريكا اللاتينية ينطبق ايضا علي شرق اسيا (الدول المحيطة بالصين والقريبة من حدود روسياالشرقية الشاسعة) وينطبق بالمثل علي افريقيا وبلدانها الغنية بالثروات الطبيعية ومصادر الثراء والطاقة. لهذا تريد الولاياتالمتحدة ان تبدو في ثياب زعيمة العالم الحر - في السلام كما في الحرب - ولهذا ينبغي ان تكون مصر مستعدة لكل الاحتمالات الأمريكية. ان أمريكا لا تريد التسليم بانها تتراجع استراتيجيا واقتصاديا وماليا. لقد اعتادت ان تكون في مركز القيادة منذ نهاية الحرب العالمية الاولي اي منذ نحو مائة عام. ولا تريد ان تسلم بان عهد زعامتها قد ولي. فهل ندعها تستولي علي الثورات العربية التي تعتبرها نقطة انطلاق عالمية لها؟