ثمة نكتة قديمة ذكرنا بها مؤخرا د.بطرس غالي في حديث تليفزيوني له تقول ان هناك حاكما لاحدي دول العالم الثالث كان كلما طلبت منه واشنطن طلبا يجيب دائما "نعم وحاضر"، لكن ذلك لم يعجب واشنطن فقررت الاطاحة به لانه لم يكن يجيب علي تعليماتها وأوامرها بالقول "نعم.. يا سيدي"! وهذه النكتة تكشف ان واشنطن تريد من الجميع ان يكون تابعين وخاضعين، او بالاصح خدما يظهرون فروض الولاء والطاعة علنا وعلي رؤوس الاشهاد لها، ولا يكتفون بتنفيذ تعليماتها سرا او بشكل مستتر، لانهم يخجلون من المجاهرة بذلك. وللانصاف فان ادارة بوش الابن ليست هي الادارة الاولي في تاريخ الولاياتالمتحدةالامريكية التي تعامل حكام العالم الثالث بالذات بهذه الطريقة وتصر علي ان تحولهم الي تابعين يدينون بفروض الولاء والطاعة لها. فهذه رغبة راودت كل الادارات الامريكية التي تتابعت علي امريكا منذ ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها، وبدأت الولاياتالمتحدةالامريكية تنتهج سياسة التدخل في شئون غيرها من الدول في شتي بقاع الارض. ولهذا شرعت وكالة المخابرات المركزية في التخطيط لعدد من المؤامرات التي استهدفت في البداية تزييف ارادة الناخبين في عدد من الدول الاوروبية بدءا من ايطاليا، ثم الاطاحة بعدد من القادة والرؤساء لدول من العالم الثالث بدءا من اربنز في جواتيمالا ولومومبا في الكونغو الي سوكارنو في اندونيسيا وغيرهم كثيرين. فان واشنطن لم تتقبل في يوم من الايام ان تنتهج اية دولة من دول العالم الثالث سواء في آسيا أو افريقيا او امريكا اللاتينية اية سياسات مستقلة او مغايرة لسياساتها ولذلك نظرت دائما لزعماء مثل عبد الناصر في مصر ولومومبا في الكونغو وسوكارنو في اندونيسيا علي انهم اعداء يجب التخلص منهم والاطاحة بهم، واستبدالهم بآخرين يكونون طوع بنانها. وربما كانت ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تساعد واشنطن في فرض حكام تابعين لها في أي مكان تشاء وتريد.. فقد ظهر في ذلك الوقت الاتحاد السوفيتي مواجها لها ومتصديا لسياساتها في شتي انحاء العالم، وظهرت الثنائية القطبية التي غلت يد الولاياتالمتحدة كثيرا، وحالت دون ان تفرض ما تريد في اي مكان واي وقت. غير ان ذلك لا ينفي ابدا ان ثمة رغبة توارثها رؤساء امريكا، رئيسا وراء الاخر، من اجل فرض الهيمنة الامريكية علي الآخرين، ومن اجل تحويل الاصدقاء والحلفاء الي تابعين خاضعين وأذلاء ايضا ان امكن.. فهي كما تقول النكتة الشهيرة التي ذكرنا بها الدكتور بطرس غالي لا تريد من يقول نعم فقط، ولكنها تريد من يقول لها نعم يا سيدتي ويا حبذا لو أضاف ايضا وتاج رأسي! اما الآن وبعد ان انهار الاتحاد السوفيتي وشعرت الولاياتالمتحدة بأنها ربحت الحرب الباردة، فانها رأت ان الوقت صار مناسبا لحصد وجمع الغنائم والاسلاب، فقررت ان الفرصة صارت مناسبة لتحقيق الرغبة القدية في السيطرة علي الجميع وتحويلهم الي تابعين خاضعين. وساعد علي ذلك ان الادارة الامريكية الحالية تعبر عن رؤي وافكار اليمين المحافظ في الولاياتالمتحدة الذين ينظرون الي الاخرين بازدراء ويعتبرونهم في مرتبة ادني من الامريكيين، لا يحق لهم الحياة الا اذا تعلموا نمط الحياة الامريكي، وتبنوا التقاليد والقيم الامريكية، وتصرفوا بنفس الاسلوب، ونفذوا ما تأمرهم به امريكا. وربما هذا يفسر غضب الادارة الامريكية علي بعض الانظمة العربية التي ترتبط بعلاقات تحالف وصداقة مع الولاياتالمتحدة منذ سنوات طويلة، ورغبة الادارة الامريكية في التخلص من هذه الانظمة. ان واشنطن صارت غير مستعدة للقبول بغير تنفيذ ما تريده وبإذعان، اما غير ذلك فان من شأنه ان يعرض من يرتكبه للعقاب والعقاب القاسي ايضا حتي ولو كان ذلك لا يزيد عن تنفيذ المطلوب ولكن بغير اذعان! وانظروا ماذا حدث حينما تجاسرت فرنسا علي الاعتراض علي حرب العراق، لقد وصل الامر الي درجة توجيه الاهانات لرئيسها وشعبها، بل وعقابها ايضا اقتصاديا وسياسيا.. وهذا بلد يعتبر نفسه واحداً من البلدان الكبيرة والمؤثرة في العالم والتي تتطلع لان تكون واحدة في نظام دولي متعدد الاقطاب.. فما بالكم إذن بدولة من العالم الثالث تماطل أو تساومها في تنفيذ ما تطلبه واشنطن، أو اخري تنفذ المطلوب ولكن سرا، او ثالثة تنفذ المطلوب علنا ولكن بغير اذعان وتدعي انه نابع من الداخل أو قرار ذاتي؟! وربما هذا ايضا هو ما يفسر موقف كوريا الشمالية التي تدرك ان تصفية برنامجها النووي لن يضع نهاية لمشاكلها مع الولاياتالمتحدة، بل سوف يفتح لمزيد من المطالب الاخري حتي تصبح في وضع الاذعان الذي تنشده امريكا منها ومن غيرها.. وقد تكون تجربة ليبيا ماثلة امامها.. وهكذا. اذا كانت نعم بدون يا سيدي لا تكفي .. فلماذا لا نجرب يوما ان نقول لا.. بشرط ان نشترك جميعا في قولها.. شعوبا مع الحكومات ولنجرب ذلك، خاصة ان نعم لم تحقق لنا شيئا مفيدا حتي الان، بل جلبت لنا فقط المتاعب والمشاكل والازمات!