والسؤال يتعلق بموقف بعض المتأسلمين من الأقباط . والإجابة هي للأسف لا . نسوق الحجة تلو الحجة والدليل تلو الدليل ، ونأتي لهم بآيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنة المشرفة ، وأقوال فقهاء عظام ، ويبقي الصلف والانغلاق الفكري والتطرف الذي لا علاقة له بصحيح الدين ولا بمصالح الوطن والمواطنين ، يبقي كل ذلك مسلطاً علي عقول تأبي أن تستمع لا لصوت الدين أقصد صحيح الدين ولا لصوت العقل ولا لصوت الوطن. لكن ثمة فائدة تتبقي من هذا التكرار وهي أن نقنع المواطن العادي بخطأ هذا التعصب المقيت ، حتي يعرف أنه ليس من الدين في شئ فيقف معنا ضده وضد من يفعلونه ، ولعل - أقول لعل - هذه الكتابة تنجح في إقناع البعض بمراجعة ما هم غارقون فيه من مواقف لا علاقة لها بصحيح الإسلام. وقد حفزني لمعاودة الكتابة في هذا الشأن ما كان وما يكون وأخشي أن أضيف وما سيكون من أحداث مفزعة تمثل جرحاً غائراً في قلب الوطن . وحفزني أيضاً مجلد جديد ورائع ومستنير للدكتور عمر عبد الله كامل عنوانه «الإنصاف فيما أثير حوله الخلاف» ويبدأ المؤلف كتابه الضخم . بكلمات تعبر عن ألم وغضب من هذا التطرف لكنه يعزي نفسه ويعزينا قائلاً "ومن حكمة الله أنه لم يجعل الخلائق من بني آدم أمة واحدة ، ولو شاء لجعلهم كذلك، ولكنهم سيزالون مختلفين إلا من رحم ربي ولذلك خلقهم" ثم يقول "ومع أن الله عز وجل قد خلق الخلق وابتلاهم بالخلاف في الرأي والمواقف والسلوك ، فإنه في نفس الوقت قد جعلهم يتدافعون كل يدافع عن رأيه" "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" «البقرة - 251» (ص 27) . ونمضي لنطالع فصلاً كاملاً عن "حقوق غير المسلمين في ديار الإسلام" وتبدأ هذه الحقوق بحق الحماية " وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجي ، ومن كل ظلم داخلي ، حتي ينعموا بالأمان والاستقرار . قال صاحب كتاب "مطالب أولي النُهي" وهو أحد فقهاء الحنابلة " يجب علي الإمام حفظ أهل الذمة ، ومنع من يؤذيهم وفك أسرهم ودفع من قصدهم بأذي " وينقل الإمام القرافي عن الإمام ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم ، فيقول "ومن كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلي بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم ونموت دون ذلك ، صوناً لمن هو في ذمة الله وذمة رسوله" «ص715» ويمضي المؤلف " وجاءت أحاديث مشرفة عدة تحذر من ظلم غير المسلمين ومنها " من ظلم معاهداً أو أنتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " وفي الحديث الشريف أيضاً " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة " وذهب الشعبي والنخعي وابن أبي ليلي وعثمان وأبو حنيفة وأصحابه "إلي أن المسلم يقتل بالذمي لاستوائها في عصمة الدم" وقد صح عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلي أحد أمرائه في مسلم قتل نصرانياً فأمره بأن يدفعه إلي ولي الدم فإن شاء قتله وإن شاء عفا عنه فدفع به إليه فضرب عنقه"«ص 717» .. ونأتي إلي موضوع آخر يشبه ما تفجر في محافظة قنا فالمؤلف يقول "ولأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين إلا ما غلب عليه الصفة الدينية ". وعلي مدي الخلافة الإسلامية سواء في العصر الأموي أو العباسي كان هناك وزراء وولاة وجباة ومدرسون لأبناء الخلفاء من النصاري . ويورد المؤلف مثالاً لعله يقترب مما يحدث في أيامنا التعيسة هذه فيقول ومن الأمثلة البارزة علي ذلك موقف الإمام الاوزاعي من الوالي العباسي في زمنه عندما أجلي قوماً من أهل الذمة من جبل لبنان لخروج فريق منهم علي عامل الخراج فوجه له رسالة جاء فيها "فكيف يؤخذ عامة بذنوب خاصة حتي يخرجوا من ديارهم وأموالهم" وحكم الله تعالي "ولا تزر وازرة وزر أخري" ويمضي الإمام الاوزاعي في رسالته قائلاً "إنهم ليسوا بعبيد فتكون في حل من تحويلهم من بلد إلي بلد أنهم أحرار وأهل ذمة" (ص722). ويقرأ لنا المؤلف من عهد خالد بن وليد لأهل عانات " ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلاة ، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم " (ص721) . ثم يقرأ لنا من كتاب "الخراج" لأبي يوسف ما جاء في عهد النبي لأهل نجران وكانوا نصاري " ونجران وحاشيتها في جوار الله وذمة محمد رسول الله علي أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم ، وغائبهم وشاهدهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو أكثر ، لا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيته ، ولا كاهن من كهانتهم .. ولا يطأ أرضهم جيش " .. ثم يمضي ليذكرنا " وفي عهد عمر إلي أبي عبيدة بن جراح " إمنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم ، وأكل أموالهم إلا بحلها " وينقل عن الإمام شهاب الدين القرافي قوله " إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم ، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وفي ذمة الله تعالي وذمة رسوله ودين الإسلام فمن إعتدي عليهم ولو بكلمة سوء ، أو غيبة في عرض أحدهم ، أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان علي ذلك فقد أضاع ذمة الله تعالي وذمة رسوله وذمة دين الإسلام " (ص719). تأملوا معي .. فمن اعتدي عليه ولو بكلمة سوء . أو أي نوع من أنواع الأذية .. أو أعان علي ذلك . وتأملوا كل ما سبق وهو صميم الإسلام وصحيحه واسألوا معي ، إسألوهم ماذا تفعلون بالإسلام وبنا ؟ ولأي مصلحة ؟ اسألوهم كيف ستلاقون ربكم وأيديكم ملطخة بما فعلتم خلافاً لأوامره . واسألوهم أولاً وأخيراً لأي مصلحة ؟ وعلي أي أساس من الدين؟ لكن الدكتور «عمر» لا يتركنا دون أن يجيب علي السؤال الملح حول من أين جاء هذا الفكر الضال ؟ ويجيب وبوضوح من التطرف. فإلي لقاء آخر يحدد لنا فيه مصادر التطرف ومناهجه ومخاطره.