د. رفعت السعيد مناضلون يساريون مهدي الحسيني كنا نقول إن الاتحاد السوفيتي قد انحرف تماماً عن قضية الاشتراكية في ظل قيادة خروتشوف . ونرفض أي تأييد لعبد الناصر. مهدي الحسيني «في حوار معه» لست بحاجة إلي أن أبدأ معه من البداية . فالبداية تعرفونها الأب والأسرة وكل هذا معلوم فمهدي هو الأخ الأصغر لكتيبة آل الحسيني : عظيمة ، عادل ، مصطفي ، هاني . ولهذا قررت أن أختصر المسافة وأبدأ من حيث يريد القارئ أن يعرف ، وها أنا أعيد نشر محضر حوار أجريته معه في 16 أكتوبر 1985 .
س : هل لك أن تروي بعض خبراتك خلال نشاطك الشيوعي في منظمة طليعة الشعب الديمقراطية ووحدتها مع منظمة وحدة الشيوعيين (و . ش)؟ ج : سأبدأ أولاً برؤيتي لمنظمة وحدة الشيوعيين .. وقائدها ومؤسسها إبراهيم فتحي ولكي تعرف حقيقة هذه المنظمة وهذا الرجل يكفي أن أروي لك واقعة قد تبدو طريفة لكنها كافية الدلالة .. فقد كانت وحدة الشيوعيين ( و . ش ) تصدر نشرة داخلية تنشر مقالات تمثل حواراً عنيفاً بين شخصين كامل وراشد . وفي حديث شخصي لاحق مع إبراهيم فتحي قال لي إن راشد هو نفس كامل وأن أصل المسألة يبدأ من أنه منذ تمرده علي قيادة حدتو وتأسيسه منظمة وحدة الشيوعيين وهو طالب صغير السن وكانت المجموعة المحيطة به من مثل مرحلته السنية وكانت بحاجة إلي رمز تقليدي يواجه قيادة حدتو فأخترع لهم قصة وجود قائد شيوعي من الحركة القديمة وله خبرات كبيرة وأنه في قيادة ( و . ش ) . وأختار له وكتب باسمه مقالات ودخل معه في حوار .. واستمر متورطاً في هذه الكذبة لفترة. أما تنظيم وحدة الشيوعيين فاسمه دليل كاف علي هويته فهو لا يتوجه إلي الجماهير ليقود نضالها ، وإنما يتوجه إلي الشيوعيين ليوحدهم وهذا في أحسن الافتراضات. وشخص آخر التقي به إبراهيم فتحي هو إبراهيم عامر وتلاقيا في شيء أساسي هو حالة التباهي المبالغ فيها بالمعرفة والثقافة المجردة فاقتنصه ليقدمه علي أنه راشد. أما المجموعة الأخري فقد كانت تنظيما جنينيا ولم تكن منظمة شيوعية بالمعني المفهوم، وإنما كانت مجموعة من الكادر يجمعهم معاً الخلاف مع حدتو والخلاف مع الآخرين حول طبيعة الحكم في مصر. وكان القائد والمفكر لهذه الجماعة فوزي جرجس، وكان فوزي جرجس قائداً لتنظيم نواة الحزب الشيوعي المصري ، رفض وحدة الموحد مختلفاً حول أسباب اتهامها والأسس التي تمت عليها وكيفية تمثيل النواة في قيادة الموحد. فقد تجاهلت النواة تمثيل القائد والمؤسس (فوزي جرجس) وقدمت إلي ل . م الموحدة ثلاثة غيره (محمود العالم بهيج نصار حسين غنيم ) . وكان فوزي جرجس يري أن الوحدة تمت بشكل علوي كاتفاق شكلي بين القادة وتواطؤ بين القيادات . وكان يتشكك في عملية الوحدة وأنها محاولة لعملية تجميع أكبر عدد من الشيوعيين لتأييد عبد الناصر بلا قيد ولا شرط ، وأن الوحدة يجب أن يسبقها تحليل عميق للواقع المصري سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وبعد الخروج من المعتقل إلتقت هذه المجموعة بقيادة فوزي جرجس مع مجموعة من غير الراضين عن التحول السياسي ، داخل الحركة الشيوعية عامة لصالح المؤسسة العسكرية الحاكمة ، والتأييد المطلق لعبد الناصر وتمجيد الحكم الفردي ، وكان تنظيماً جنينياً وتطلب الأمر وقتاً كافياً لوضع خط سياسي وتنظيمي واضح. ولكن بدأت منظمة وحدة الشيوعيين في الاتصال بهذه المجموعة وضغطت بشدة من أجل وحدة كل القوي المناوئة لخط حدتو ، بحجة تأسيس تنظيم ثوري حقيقي. الكوادر الأساسية التي كانت ملتفة حول فوزي جرجس وهي تحديداً : ( محمود المناسترلي حمدي حمدان حسني تمام فوزي محمد علي نجيب سري شعبان حافظ محمود عزمي مهدي الحسيني محمود ماجد نجاتي عزب محسن الخياط رمسيس لبيب). والعدد ليس كبيراً لكن فيهم نوعيات جيدة. وضغط بعض هؤلاء وخاصة محمود المناسترلي وحمدي حمدان وحسني تمام من أجل الوحدة مع و.ش واتفق فوزي جرجس متنازلاً عن موقفه الثابت بضرورة التمسك بشروطه المثالية لأية وحدة ، وجلس الطرفان وكشف فوزي جرجس كل أرواقه وقدم أسماء أعضائه وتم الاتفاق مع إبراهيم فتحي ( و . ش ) علي كل شيء. حتي علي اسم التنظيم وكان طليعة الشعب الديمقراطية وفي اللحظة التي تصور فيها الجميع أن اتفاقاً كاملاً ونهائياً قد تم ، هرب العريس في ليلة الفرح هكذا فعل إبراهيم فتحي بالضبط ، ففجأة وبدون سابق إنذار وفي ذات اليوم المقرر لإعلان الوحدة وتأسيس طليعة الشعب الديمقراطية كانت أسماء ومواقع كل أعضاء مجموعتنا تعلن علي المقاهي، في حين أن فوزي جرجس كان حريصاً علي أن يكون جماعة كاملة السرية عندما كان في المعتقل لم يعلن أنه كون جماعة وإنما اكتفي بإبداء معارضته لوحدة الموحد .. وتورط فوزي جرجس في اسم طليعة الشعب الديمقراطية وظل يعمل تحت هذا الاسم. وهكذا هزمت المعارضة اليسارية لحدتو ، وهزمت عملية معرضه الارتماء في تأييد عبد الناصر ، وتعطل التنظيم وأصيب كل شيء بالارتباك وكشفت كل الأوراق وعاجلتنا حملة يناير 1959 . وقبض علي الغالبية ، وبقي خارج السجن عدد محدود . كان قليل العدد وإن كان شديد الإخلاص والحماس، وما لبثوا أن تساقطوا واحداً بعد الآخر وكان آخرهم رمسيس لبيب. س : وماذا عن تجربتكم في السجن ؟ ج : عدم استكمال الخط السياسي والتنظيمي وعدم تحقيق حضور جماهيري كاف أدي إلي عزلتنا عن الجماهير ، كما أدي إلي عزلتنا عن كادر الحركة الشيوعية ، كذلك كنا في السجن معزولين عن مجمل الكادر. وكانت أفكارنا تميل إلي الفكر الصيني مع بعض التحفظات ، وكنا نري أن التأميمات ليست من الاشتراكية في شيء وأنها شكل من أشكال سيطرة المؤسسة العسكرية علي مقدرات البلاد ، وتصفية لنواة الاقتصاد الوطني ، ونري أن في تأميم الصحافة محاولة لفرض وجهة نظر السلطة من خلال كوادرها المدربة علي جماهير الشعب والسيطرة علي عقولها وغسل مخ الشعب لصالح المؤسسة العسكرية. وكنا نري في الاتحاد الاشتراكي مجرد امتداد لهيئة التحرير وجهاز لتصفية الديمقراطية ومحاولة إضفاء مشروعية للأجهزة البوليسية وعملائها في صيغة تنظيم يدعي الاشتراكية. وكنا نقول إن الاتحاد السوفييتي في ظل قيادة خروتشوف قد انحرف تماماً عن قضية الاشتراكية ، وكنا نرفض كل الأطروحات السوفييتية وخاصة أطروحات سيمينوف وبونيماريوف. وكنا بطبيعة الحال نتناقض بشكل شبه كامل مع ما كنا نسميه طابور الحركة الشيوعية الرسمية (حدتو الراية ع . ف ) وأدي هذا طبعاً إلي المزيد من عزلتنا عن الشيوعيين الآخرين في السجن. س : وماذا عن مسألة حل التنظيم ؟ ج : إذا كانت المنظمات الأخري قد حلت نفسها فإن منظمتنا قد تحللت . فور الخروج من السجن تباعدت العلاقات وكنا نكتفي باللقاء الشخصي الودي ونتساءل ماذا سنفعل، وكانت أوضاعنا الشخصية منهارة لا سكن ولا وظائف ولا دخل ولا علاقة فعلية بالواقع المصري ولا احترام اجتماعي، ولا إمكانيات لعقد صلات فعلية مع الواقع. وكان الوضع الجبار الذي أشاعه عبد الناصر يخيف الجميع وما لبث فوزي جرجس ومحمود عزمي أن اعتقلا بعد فترة وجيزة ( في ذات عام 1965 ) ولم يفرج عنهما إلا في يونيو 1967 وكان اعتقالا وقائياً يستهدف إخافة الجميع من مجرد التفكير في بناء تنظيم. هذا إلي جانب أن مناخ الحل كان مسيطراً علي الوجود السياسي الشيوعي في مصر ، وفقدت الكوادر الثقة في بعضها البعض. س : ما تقييمك لشخص فوزي جرجس ؟ ج : فوزي جرجس فترة السجن الأخيرة أجهزت عليه والحقيقة أنه قد بذل جهداً كبيراً علي مدي سنوات عديدة لكنه أحبط في السنوات الأخيرة. ويمكن القول إنه لم يكن يصل إلي المدي النهائي في أفكاره ، كان لا يستكمل أفكاره ولا يكملها ، صفته الأساسية هي روحه الانتقادية لأفكار الآخرين ، لكن ذلك لا ينفي نزعته الإبداعية التي لا تكتمل أبداً ولا تصل إلي مداها. ويمكن القول إنه تتلمذ علي صبحي وحيده ود. عبد الفتاح القاضي. يمكن القول إنه رجل مخلص ، مثقف انتقادي ، ولكنه بلا نسق فكري متكامل ولا نسق تنظيمي مؤهل للتوجه للجماهير.