مناضلات يساريات عظيمة الحسيني «تراكمت الأحزان مع تراكم سنوات السجن إخوتي، وذات يوم عدت مكتئبة بعد زيارة لسجن المحاريق. ارادوا أن يروحوا عني، أخذوني إلي فرح إحدي قريباتي. هناك ألحوا في أن اطلق زغروتة اشتهرت بها، تمنعت فالحزن يخيم علي صدري، ألحوا اطلقت زغزوتة استمرت واستمرت واستمرت ولم استطع أن اسكتها إلا في المستشفي». عظيمة الحسيني (في حوار معها) الأب مهندس من أسرة ميسورة الحال ودرس الادب في الجامعة الأمريكية ثم درس في كلية الهندسة والأم تعلمت لسنوات عدة في مدرسة الراهبات. ثم إلي البيت فالزواج. الأب ثائر يتفجر ثورية فعلها في ثورة 1919 لكنه لم يتوقف ظل ثائرا حتي آخر أيام حياته، وأدت ثورته إلي مطادرة له في وظيفته يطاح به إلي بلد جديد مع كل انطلاقه في تمرده. ينتقل ومعه أسرته إلي القاهرة - دمنهور- بني سويف- اسيوط. الاقصر- نجع حمادي- قوص-رفح.. وأماكن أخري عديدة . هي تعلمت حتي «الثقافة » وأصدر الجد أمراً بأن ذلك يكفي. الأب كان يتابع الثورة الفلسطينية (1936) ويتحدث عنها مع كل من يعرفه وعن البطل عبد القادر الحسيني حتي تصوروا انه قريبه، ولما استشهد البطل اتوا ليقدموا له واجب العزاء، فأقام سرادقا وتقبل العزاء فعلا. وتبقي فلسطين راسخة في وجدان الفتاة الصغيرة «عظيمة». ومنذ ذلك الحين وهي تشعر بأنها بالفعل تنتسب إلي فلسطين. وعندما أصبحت شابة انضمت إلي منظمة فتح، وربما كانت المصرية الوحيدة التي انضمت إلي صفوف فتح. قلبها كان دوما مع الفقراء. إلي جوارهم كانت أسرة فقيرة بناتها يرتدين ملابس فقيرة ايضا، في غفلة من الأم جمعت كل ملابسها وذهبت لتهديها لهذه الأسرة . وعندما أصبحت شابة أسست جمعية لمساعدة الطالبات الفقيرات، تجمع من الجيران والاصدقاء والأقارب ملابس «نصف عمر» تغسلها وتكويها ثم توزعها علي الطالبات. انها ايضا صاحبة هذا الاختراع الذي يقدمه اتحاد النساء التقدمي في اقامة معارض للملابس المستعملة . الإخوة خمسة بهي - عادل- مصطفي - هاني- مهدي، جميعا مسهم شغف النضال اليساري تماما كما فعل الوطن مع أيهم في البداية كان بهي ثم مصطفي ثم عادل.. ثم الجميع. وهكذا وجدت عظيمة نفسها مسئولة عن ملاحقة خمسة يلاحقهم الأمن. وفي الزمن الناصري كانت ملاحقة الأمن صعبة ، السجون شرسة والمنافي أكثر شراسة بما جعلها في دوامة نضال دفاعا عن السجناء، الفتاة التي رضعت عشق الوطن وحب الفقراء عاشت محنة ملاحقة سجناء الناصرية حينما وجدوا تدافع عنهم -تحشد العائلات في مظاهرات غاضبة - تنقل الرسائل من سجن لسجن- ومن السجن للخارج. فرضت نفسها علي الجميع كقائدة للدفاع عن سجناء الناصرية . وتكونت كتيبة الامهات والإخوات والزوجات لتخوض نضالا بطوليا يحمي ظهر الرفاق وينقل صرختهم إلي الشارع وإلي خارج البلاد. أم محمد عثمان، أم محمود العطار، سميرة البرلسي زوجة سعد زهران، أم حمدي مرسي، نجية المانسترلي، خالدة المانسترلي ومع هؤلاء جميعا فتاة تتقد حماسا هي عظيمة الحسيني، وتحكي لي في حوارها كيف كانت البداية «في 1954، أتي البوليس ليقبض علي مصطفي بكيت وانهمرت دموعي لكن أمي صاحت «هو أنتي مش وطنية ، لازم تعرفي إن فيه سيدات بطلات فأخت البطل عبد الفتاح عنايت كانت مثله تخوض معركة الوطن وتدافع عنه وهو في السجن». وفجأة اصبحت عظيمة زعيمة لجيش من عائلات السجناء الشيوعيين حكايات السجن والمعتقل لم تزل عالقة بذهنها، فقد تعلمت كيف تحفظها أثناء الزيارة لتنقلها إلي الرفاق خارج السجن ومنها إلي الرأي العام خارج الوطن. ولم تزل تتذكر قصص الارهاب الدموي في سجن الواحات حيث سجن مهدي وفي سجن العزب (الفيوم) حيث سجن مصطفي، ذات يوم زارت شقيقها في سجن المحاريق حملت معها صناديق عديدة من أسر السجناء الشيوعيين كانت المناسبة مغرية فالزيارة ستتم يوم العيد. بعد رحلة مضنية فوجئوا بالسجناء مضروبين والسجن كله في تكديره. والزيارة ممنوعة والأكل الخارجي ممنوع، صرخت احتجت، شتمت، اخيرا سمح لها المأمور بالزيارة ، أما الأكل فلا وألف لا. لكن العنيدة لا تكف عن العناد، ربطت الصناديق في جمل وظلت تجره هي وأحد الزائرين أربعة كيلو مترات وهما يدوران بالصناديق في حر الصحراء بحثا عن منفذ السور تلقي منه بالطعام للسجناء، لكنها فوجئت بنقطة لحرس الحدود، ضابط شاب وبضعة جنود في قلب الصحراء اجلسوها حكت لهم، رق قلبها لهم فتحت صندوقا وأخرجت بطة محمرة وصينية رقاق. اكلوا. هي لم تأكل، فكيف تأكل والرفاق لم يأكلوا، الضابط الشاب أوفي بوعده لها، وقام بنفسه بتهريب الصناديق إلي السجناء. والقصص بلا نهاية ، فالوحشية في الزمن الناصري كانت بلا نهاية «مصطفي» كان في معتقل العزب بالفيوم، لا زيارات، فقط رسائل عن طريق المباحث، ارسل عديدا من الخطابات إلي أمه يطلب صورة للأولاد بسمة وهاني، ألح في طلب الصورتين، ذات يوم استدعاه المأمور وسأله: انت عايز صور ولادك؟ وأجاب ايوه، فأخرج الصورتين ومزقهما أمام عينيه، مصطفي ثار وحاول أن يضرب المأمور فساقوه إلي التأديب حيث ضرب ضربا مبرحا. عبر أحد السجانة سمعت عظيمة بالخبر ذهبت إلي باب السجن تطلب زيارة أخيها، رفضوا هتفت بأعلي صوت «يسقط عبد الناصر المجرم» وظلت تهتف حتي قبضوا عليها. سألها وكيل النيابة الهمام سؤالا واحدا «من ابلغك بواقعة ضرب اخيكي؟». وفي ظل هذا الحشد من المأسي ومن القصص. عاشت عظيمة نضالا عظيما. بعد النكسة عملت مع فتح بحماس ، في جناح فلسطين بالمعرض الصناعي 1969 بدأت تجمع التبرعات للشعب الفلسطيني ومن المعرض إلي الشارع..سيدة من بولاق أتت إليها إليها بعربة كارو وتحمل عليها كل ما في البيت من نحاس تبرعا لفلسطين من حصيلة التبرعات افتتحت «فتح» عيادة طبية صغيرة في شارع جواد حسني كانت النواة لمستشفي فلسطيني، وعندما يأتي السادات يسجن هاني وتواصل عظيمة معركتها في خدمة الرفاق السجناء. لكن الزمان المتقلب اطاح بقيادات الناصريين إلي السجون وتجمعوا في مستشفي قصر العيني حيث ينعمون برعاية لا بأس بها. لكن زملاءهم بالخارج لم يهتموا بهم، نسوهم تماما، وكان علينا أن نسمو فوق جراح الماضي ونقدم لهم العون. دفاعاً، وحملات عالمية تطالب بالافراج عنهم، وتواصلا معهم ومن غير عظيمة تقوم بهذا التواصل وتقوم بزيارة خصوم الأمس محملة بالطعام والهدايا من التجمع. وتوالت زيارتها لهم تحمل لهم الطعام والاخبار وتنقل منهم الاخبار وتتابع معهم الحملات العالمية التي ينظمها «التجمع» للافراج عنهم، كل ذلك فعلته وهي تتذمر لكنها امتثلت للقرار الحزبي. لكن لعظيمة الوجه النضالي الآخر فهي واحدة من مؤسسات اتحاد النساء التقدمي. وهي برسائلها التي لا تنقطع تمثل ضميرا يقظا ولا يهدأ.