كانت الحياة الثقافية التونسية في العقود الأولي من القرن العشرين تعاني من الانقسام بين نقيضين: الأول هو الثقافة «واللغة» الفرنسية التي يفرضها الاحتلال الفرنسي في بلاد المغرب العربي كلها «تونس والجزائر والمغرب»، ضمن مشروع الاستعمار الفرنسي الرامي إلي «فرنسة» هذه البلدان التي اعتبرها جزءا من الإمبراطورية الفرنسية، منذ مغامرة نابليون بونابرت أواخر القرن الثامن عشر في مصر.والثاني: هو المقاومة الإسلامية التقليدية لهذه «الفرنسة» الثقافية واللغوية، عبر جامع الزيتونة وبعض المفكرين الإسلاميين الذين أرادوا بعث الروح الإسلامية والرابطة الإسلامية في مواجهة هذا السعي الاستعماري الفرنسي «مثل خيرالدين التونسي وغيره»، ممن دفعهم مقاومة المستعمر والتغريب إلي مواقف أصولية تقليدية لا تشفي الغليل. لكن مدرسة جديدة كانت تتولد من بين النقيضين، مسنودة بالهبات الوطنية التي شهدتها عشرينيات القرن العشرين في بلاد عربية عديدة «كمصر والشام والعراق وبلاد المغرب نفسها» مكتشفة الشعور «الوطني» المنفصل عن «رابطة الخلافة الإسلامية»، حاملا دعوات الاستقلال «عن المستعمر وعن الباب العالي معا»، ومدعومة بالحركات التجديدية في الأدب، مثل جماعة «الديوان» وجماعة «أبوللو» في مصر، وجماعة «المهجر» اللبناني والسوري في المهاجر الأمريكية. هذه المدرسة الجديدة هي المدرسة الرومانتيكية التي استفادت من الثقافة الفرنسية في الاطلاع علي التيارات الأوروبية الجديدة، واستفادت من المرجعية الإسلامية في التمسك بلغتها العربية مع ضخ الحياة والحيوية فيها وتخليصها من الجمود التقليدي القديم، هنا سطع نجم الفتي أبوالقاسم الشابي (1909 - 1934). ولقد تأثر أبوالقاسم الشابي بالمدرسة الرومانتيكية الأوروبية وخاصة الإنجليزية، عند شيللي وبايرون وغيرهما من الأقطاب الرومانتيكيين، كما تأثر بمدرسة «المهجر» العربية، مثل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبوماضي وإلياس أبي شبكة والقروي وغيرهم، وبجماعة «أبوللو» المصرية التي نشر في مجلتها العديد من القصائد الباقية، لينتج لنا تركيبة شعرية غنية متفردة مستقلة. تتكون هذه التركيبة - كما يقول رجاء النقاش في كتابه المهم عن الشابي - من تطبيق شعار عبدالرحمن شكري «مدرسة الديوان» الذي يقول: «ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدان»، بتصوير دواخل النفس البشرية وبالميل إلي مكنونات «الذات» وبالاندماج في الطبيعة وجعلها تنطق بما يعتمل في أغوار الروح. في هذه المدرسة الرومانتيكية تصبح الحبيبة «مثالا» مثاليا للجمال والحسن والطهارة والنقاء، كما يتجسد في قصيدته الشهيرة «صلوات في هيكل الحب»، حين يقول: «عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء، كالورد، كابتسام الوليد يا لها من وداعة وجمال وشباب منعم أملود يا لها من طهارة تبعث التقديس في مهجة الشقي العنيد» وفي هذه المدرسة الرومانتيكية يتجلي مفهوم «الوطن»، والغرام بناسه وطبيعته ومائه وصحرائه، كما يتجلي في قوله: «أنا يا تونس الخضراء في لج الهوي قد سبحت أي سباحة شرعتي حبك العميق وإني قذ تذوقت مره وقراحه لا أبالي وإن أريقت دمائي فدماء العاشقين دوما مباحة» وفي هذه المدرسة الرومانتيكية تتجلي فورة الشباب وحب الحياة واندلاع الأمل وجيشان الروح الفياضة، كما يتجسد في قصيدته الخالدة التي صارت بيانا لكل هبة عربية، وصارت شعارا في الثورة التونسية الأخيرة، وأعني قصيدة «إرادة الحياة» التي تقول بعض أبياتها الشهيرة: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر فويل لمن لم تشقه الحياة من صفعة العدم المنتصر» ولقد صارت بعض الأبيات هذه القصيدة جزءا لا يتجزأ من محفزات الثقافة العربية الحديثة، حينما يراد اللجوء إلي المأثورات التي تدعو إلي الحزم والإرادة وركوب المصاعب من أجل بلوغ الأماني المستحقة، مثلها في ذلك مثل بيت أبي تمام: «السيف أصدق أنباء من الكتب في حدة الحد بين الجد واللعب» ومثل بيت المتنبي: «الليل والخيل والبيداء تعرفني السيف والرمح والقرطاس والقلم» ومثل بيت أحمد شوقي: «وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق» أو بيت شوقي الآخر: «وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا» وحين مات الشابي شابا يافعا يانعا لم يكد يبلغ السادسة والعشرين، مريضا بداء القلب، كان يدرك ببصيرته الشعرية الرائية أن قصيدته «إرادة الحياة» التي أنشدها لكي يستعين بها شعبه في مواجهة الاحتلال الفرنسي، سيجيء عليها يوم ويرفعها شعبه في مواجهة «الاستبداد المحلي» لطغمة الفاسدين. وقد تناسل الشابي في الأجيال الشعرية التونسية التالية أبناء وأحفادا، بعضهم اتخذ شعر التفعيلة سبيلا، وبعضهم اتخذ شعر الحداثة سبيلا، وبعضهم اتخذ قصيدة النثر سبيلا، في خطوات متطورة عن مدرسة الشابي الرومانتيكية «أمثال: المنصف المزغني ومحمد الغزي ويوسف رزوقة وأولاد أحمد وآمال موسي»، لكن جميعهم، أبناء وأحفادا، يدينون لفيضان الشابي بالخصوبة والتموج والنماء، ويدركون أن النهر الذي حفره الشابي تفرع إلي عذرات عذبة وجداول ديانة، تسري في أرض الشعر.