الرئيس السيسي يرأس اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة    عيار 21 بكام الآن؟.. سعر الذهب اليوم السبت 5 أكتوبر 2024 في مصر (البيع والشراء)    وزير العمل ونظيره العراقي يبحثان ملفات التعاون المشتركة    إسرائيل تبلغ أطرافا دولية رفضها دخول فرق الإنقاذ لمكان استهداف هاشم صفي الدين    ليفربول يؤمن صدارة الدوري الإنجليزي بالفوز على كريستال بالاس    أول تحرك من الزمالك في ملف قضية أتشيمبونج    جهود مكثفة لانتشال جثماني شابين من هويس الخطاطبة بالمنوفية    أولى هجمات الخريف.. بيان مهم بشأن تغيّر حالة الطقس: «استعدوا لنوة رياح الصليبة»    تفاصيل غرق طالب بنهر النيل في الحوامدية    الإمارات تُطلق حملة إغاثة لدعم لبنان ب 100 مليون دولار    "الكونفدرالية الإيطالية": انطلاقة جديدة لتمكين المرأة المصرية بقلب سوق العمل الأوروبي    حبس موظف تحرش بسيدة أجنبية في المعادي    «الإفتاء» تنظم البرنامج التدريبي «التأهيل الفقهي» لمجموعة من علماء ماليزيا    الصحة: فريق الحوكمة والمراجعة الداخلية يتفقد مستشفى الغردقة العام ويحيل واقعة تقصير للشئون القانونية    تأجيل إعلان جوائز مسابقة ممدوح الليثي بمهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط    إسرائيل تشن 5 غارات على ضاحية بيروت الجنوبية خلال الساعة الأخيرة    عاجل.. تأجيل إعادة محاكمة متهم بتفجير فندق الأهرامات الثلاثة لحضور المحامي الأصيل    نقابة المهن الموسيقية ترعى مؤتمر الموسيقى والمجتمع في جامعة حلوان    كومباني يوضح صعوبة مواجهة فرانكفورت في الدوري الألماني    وزير الصحة: حملة 100 يوم صحة قدمت أكثر من 103 ملايين خدمة مجانية خلال 65 يوما    «العمل» تعلن عن 4774 وظيفة للشباب.. تعرف على التخصصات    صندوق مصر السيادي على طاولة "النواب" الأثنين المقبل    خلال 24 ساعة.. تحرير 534 مخالفة لغير الملتزمين بارتداء الخوذة    القوات الروسية تحرر بلدة جيلانوي فتورويي في جمهورية دونيتسك الشعبية    اليابان تجلي 16 من رعاياها من لبنان بطائرة عسكرية    التضامن تسلم 801 وحدة سكنية للأبناء كريمي النسب في 12 محافظة    «إسلام وسيف وميشيل».. أفضل 3 مواهب في الأسبوع الخامس من كاستنج (فيديو)    صفحات من المجد.. قراءة في كتب حرب أكتوبر    احتفالًا بانتصارات أكتوبر.. ورش وعروض فنية ضمن فاعليات قصور الثقافة    الكنيسة الأرثوذكسية تهنئ الرئيس والمصريين بذكرى نصر أكتوبر    خبيرة: مشروع رأس الحكمة أحدث استقرارا نقديا انعكس إيجابيا على مناخ الاستثمار    رئيس معهد التمريض بالتأمين الصحي في الشرقية: تكليف الطلبة بالعمل فور التخرج    إطلاق حملة لصيانة وتركيب كشافات الإنارة ب«الطاحونة» في أسيوط    في حوار من القلب.. الكاتب الصحفي عادل حمودة: "أسرار جديدة عن أحمد زكي"    «منظومة الشكاوى» تكشف عن الوزارات والمحافظات صاحبة النصيب الأكبر من الشكاوى    موشيه ديان يروى شهادته على حرب 73: مواقعنا الحصينة تحولت إلى فخاخ لجنودنا.. خسرنا كثيرا من الرجال ومواقع غالية    وزير التعليم العالي: لدينا 20 جامعة أهلية تتضمن 200 كلية و410 من البرامج البينية    ترشيدًا لاستهلاك الكهرباء.. تحرير 159 مخالفة للمحال التجارية خلال 24 ساعة    برلماني يحذر من مخاطر انتشار تطبيقات المراهنات: تسمح بقرصنة بيانات المستخدمين    رئيس جامعة الأزهر: الله أعطى سيدنا النبي اسمين من أسمائه الحسنى    فضل الصلاة على النبي محمد وأهميتها    لموظفي القطاع الخاص.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2024    تخفيضات 10%.. بشرى سارة من التموين بشأن أسعار السلع بمناسبة ذكرى أكتوبر    فرد الأمن بواقعة أمام عاشور: ذهبت للأهلي لعقد الصلح.. واللاعب تكبر ولم يحضر (فيديو)    الولايات المتحدة تضرب 15 هدفًا للحوثيين في اليمن    شاهندة المغربي: استمتعت بأول قمة للسيدات.. وأتمنى قيادة مباراة الأهلي والزمالك للرجال    تقرير أمريكي: السنوار اتخذ مواقف أكثر تشددا.. وحماس لا ترغب في المفاوضات    إنتر ميلان يواجه تورينو اليوم في الدوري الإيطالي    حاول إنقاذه فغرقا معًا.. جهود مكثفة لانتشال جثماني طالبين بهاويس الخطاطبة بالمنوفية (أسماء)    «تنمية المشروعات» يضخ 2.5 مليار جنيه تمويلات لسيناء ومدن القناة خلال 10 سنوات    طريقة عمل الكرواسون بالشيكولاتة، الوصفة الأصلية    رضا عبدالعال: كنت أتمنى انضمام سام مرسي للمنتخب الوطني    إشراقة شمس يوم جديد بكفر الشيخ.. اللهم عافنا واعف عنا وأحسن خاتمتنا.. فيديو    برج القوس.. حظك اليوم السبت 5 أكتوبر: اكتشف نفسك    إسلام عيسى: انتقالى لسيراميكا إعارة موسم منفصل عن صفقة أوجولا    بلومبيرغ: البنتاجون سينفق 1.2 مليار دولار على الأسلحة بعد هجمات إيران والحوثيين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 5-10-2024 في محافظة البحيرة    رئيس جامعة الأزهر: الحروف المقطعة في القرآن تحمل أسرار إلهية محجوبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورات ينجزها الشرفاء ويرثها الأوغاد
نشر في الشعب يوم 19 - 05 - 2007


بقلم: د. فيصل القاسم
مع كل أسف يبدو أن القوى الاستعمارية التي تتوافد على منطقتنا قرناً بعد قرن لم تُهزم مرة، بل كانت تخرج دائماً مظفّرة وتتركنا ننتقل من سيئ إلى أسوأ. ولا يجب بأي حال من الأحوال اعتبار خروجها من الأراضي العربية بفعل الثورات الشعبية وضربات المقاومة نصراً مبيناً لنا. فهي استطاعت في كل مرة للأسف الشديد أن تقتنص النصر من براثن هزيمتها. أي أنها لم تخرج من الأراضي والبلدان العربية التي احتلتها إلا بعد أن تكون قد حققت القسط الأكبر من أهدافها الاستعمارية المرحلية والمستقبلية، فليس من الضروري أبداً أن يقترن النصر الاستعماري علينا ببقاء القوات المحتلة فوق أراضينا، فالعبرة دائماً بالنتائج المستقبلية.

لقد جاءت الحملات الاستعمارية الغربية إلى بلادنا منذ قرون لأغراض سياسية واقتصادية وثقافية معينة ليست بحاجة للشرح والتوضيح. ولو نظرنا إلى نتائجها لوجدنا أنها حققت معظم أهدافها المرجوة حتى بعد رحيل القوات الاستعمارية عن ديارنا من المحيط إلى الخليج. وكي لا نذهب بعيداً إلى القرون الغابرة لنبدأ بالاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 الذي دام حوالي مئة وثلاثين عاماً. صحيح أن الثورة الجزائرية العظيمة قدمت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد لطرد المستعمر الفرنسي وتمكنت في النهاية من تحرير التراب الجزائري من رجس وجوده العسكري. لكن هل انتهى التأثير الاستعماري الفرنسي على الجزائر بعد التحرير؟ بالطبع لا. لقد كان التحرير عسكرياً فقط أو بالأحرى اسمياً. فالثقافة الفرنسية ما زالت هي المسيطرة في الجزائر بعد مرور خمسين عاماً على الثورة، إلى حد أن الرئيس الجزائري لا يحلو له إلقاء خطبه إلا باللغة الفرنسية أحياناً. أما الطبقة السياسية المسيطرة على البلاد فهي امتداد للتأثير الاستعماري الفرنسي، فهي في معظمها تتألف من فرانكوفونيين متشددين يمقتون اللغة العربية والثقافتين العربية والإسلامية. لا عجب أن وصف أحد الباحثين الجزائريين الطبقة المتنفذة في البلاد (ببني باريس) الذين يتحكمون بأحفاد (بن باديس) أحد قادة الثورة الجزائرية ورمز العروبة والإسلام في البلاد. ولكم سمعت كتاباً جزائريين يتهمون بعض جنرالات الجيش الجزائري بأنهم طابور خامس أو امتداد للمستعمر الفرنسي الراحل، خاصة أن بعضهم خدم مع الفرنسيين أيام الاحتلال. وقد لا يختلف الأمر بالنسبة للكثير من الدول العربية التي وصف المفكر التونسي هشام جعيط قادتها بأنهم ليسوا أكثر من وكلاء للقوى المهيمنة دولياً.

والأنكى من ذلك أن التقسيم الاستعماري للجزائر ما زال قائماً بعد مرور حوالى قرنين على الغزو الفرنسي للبلاد. أليس هناك الآن المشكلة البربرية أو الأمازيغية التي تقض مضاجع الجزائر؟ ألم يتفاخر الرئيس الفرنسي جاك شيراك بوصف اللاعب الجزائري الشهير زين الدين زيدان عندما فازت فرنسا بكأس العالم بأنه لاعب قبائلي، أي أمازيغي وليس جزائرياً، وذلك في تأكيد منه على نجاح المخطط الاستعماري الفرنسي في تقسيم الجزائر على أسس عرقية ومناطقية؟ باختصار شديد فإن الاستعمار الفرنسي مازال يجني ثمار احتلاله للجزائر بعد مرور مائة وأربعة وسبعين عاماً على الغزو.

أما الاستعمار العثماني للمنطقة العربية فقد يكون الأسوأ لأنه لم يخرج من بلادنا بفعل ضربات المقاومة كما حصل في الجزائر بل سلمنا للفرنسيين والانجليز على طبق من ذهب بعد أن أنهكنا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. صحيح أن (رجل أوروبا المريض) هُزم أمام المستعمرين الأوروبيين في العقد الثاني من القرن العشرين، لكنه لم يُهزم أمام العرب بل يمكن القول إنه خرج من ديارهم منتصراً. ألا يكفي أنه تركنا أشبه بجثة هامدة على كل الصعد تقريباً جاهزة للنهش والتشريح كي يتقاسمها المتآمرون على الامبراطورية العثمانية؟

لقد أنهى الانجليز بالتعاون مع الفرنسيين والروس القبضة العثمانية على المنطقة العربية، لكن ليس من أجل تخليص العرب من النير العثماني بل من أجل افتراس المنطقة وتقطيع أوصالها إرباً إرباً. صحيح أن الدول العربية المنبثقة عن التقسيم السايكس بيكي استطاعت بعد سنوات أن تطرد المستعمرين البريطاني والفرنسي في العراق وسورية ولبنان وشبه الجزيرة العربية والسودان ومصر والجزائر وغيرها، لكن بعد أن حقق المستعمر معظم غاياته التي تمثلت في تفكيك العالم العربي إلى دول ودويلات ومحميات متصارعة.

صحيح أن المستعمر قد رحل بعسكره، لكن إرثه الاستعماري ما زال ماثلاً أمام أعيننا جميعاً يعذبنا ويؤرقنا يوماً بعد يوم. لقد قال تشيرشل ذات مرة متفاخراً بانتصار بلاده حتى بعد رحيلها عن امبراطوريتها: (لم نترك مستعمراتنا إلا بعد أن ورثنا لها ألف قنبلة موقوتة وقنبلة). وقد تمثلت التركتان البريطانية والفرنسية في البلدان التي احتلوها في العالم العربي وآسيا وأفريقيا بالصراعات الحدودية الدامية التي ما زالت بعض البلدان تعاني منها شر معاناة حتى هذه اللحظة.

لقد ترك المستعمر نزاعاً حدودياً بين الدول تحوّل في أحيان كثيرة إلى حروب مدمرة. هل يستطيع أحد أن ينكر أننا ما زلنا ندفع فاتورة التجزئة الأوروبية لبلداننا حتى هذا اليوم؟ أي نصر أكبر من هذا النصر الاستعماري علينا؟ ومن سخريات القدر فإن هذا المستعمر خرج من الباب ليعود من النافذة في بعض الدول العربية، فهو الذي يحكم من وراء الستار في بلدان عربية عدة وبرضى تام من أنظمتها، وكأنه لم يكتف بما فعل بنا على مدى عقود من تفتيت وتجزئة وقمع وتخريب.

البعض يراهن هذه الأيام على المقاومة العراقية في إحباط المشاريع الاستعمارية الجديدة في المنطقة مع أن ذلك ليس مؤكداً تماماً. لكن حتى لو افترضنا جدلاً أن المقاومة العراقية ستتمكن في النهاية من إخراج المستعمر الأميركي من بلاد الرافدين، فإن ذلك لن يكون نصراً كبيراً للعرب، إذا ما قسناه بالنتائج التي ترتبت على الغزو. أميركا فيما لو خرجت ستترك العراق ممزقاً إلى أعراق وطوائف وجماعات متناحرة ربما تمتد عدواها إلى العديد من البلدان المجاورة التي تعاني أصلاً خللاً فادحاً في تركيبتها الوطنية. هل هناك نصر أهم من هذا النصر بالنسبة لأميركا والقوى الاستعمارية المتحالفة معها كإسرائيل وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية؟ إنه نصر يفوق في أهميته الانتصار البريطاني الفرنسي في اتفاقية سايكس بيكو الأولى. لا عجب إن راح البعض، يتحدث عن سايكس بيكو جديدة أشد خطراً ووطأة على المنطقة.

إنهم قادمون هذه المرة كي يقسموا المُقسّم ويجزأوا المُجزأ.

والمشكلة الخطيرة دائماً أن الإرث الاستعماري في المنطقة العربية يصبح، لسخرية القدر، مقدساً أو منزلاً لا يجوز المساس به بأي حال من الأحوال. فلو أن الثورات العربية التي طردت المحتلين في منتصف القرن الماضي وما تلاه صححت الأوضاع الخطيرة التي خلفها المستعمر لتفاءلنا خيراً بما قد تنجزه المقاومة العراقية.

لكن الذي سيحدث أن الواقع الذي سيخلفه المستعمر الأميركي الجديد في بلاد الرافدين سيصبح أمراً واقعاً ممهوراً بختم الشرعية الدولية وبختم القوى المحلية التي ستحل محل الأميركيين فيما لو رحلوا، لأننا لم نتمكن ولا مرة حتى الآن من استثمار انتصاراتنا على المستعمر بعد رحيله وقلب معادلاته رأساً على عقب، بل كرسناها.

هل خرجت الأنظمة العربية التي حكمت البلدان المقسمة بموجب اتفاقية سايكس بيكو قيد أنملة عما رسمه الاستعمار؟ هل انقلبت على التركة الاستعمارية؟ حاشى! لقد التزمت بها التزاماً حرفياً لتصبح أمراً واقعاً لا يمكن مجرد التشكيك فيه. بل إن بعض الأنظمة العربية ذهب أبعد من سايكس بيكو، فقسم بلاده إلى ملل ونحل وطوائف وأعراق وعوائل وعشائر، وكأنه كان يقول للبريطانيين والفرنسيين نحن نضاهيكم ونتفوق عليكم في تفتيت الأوطان وتخريبها!

لا أريد طبعاً أن أبث اليأس والإحباط في نفوس القراء، أو أن أهلل للانتصارات الاستعمارية المتعاقبة علينا، كما لا أريد أن انتقص من قيمة حركات المقاومة العربية التاريخية أو الحالية أو انتصاراتها، لكن علينا أن نواجه الحقائق المرة، هل خرج المستعمرون من ديارنا يوماً إلا وهم منتصرون؟ أما زالوا يجنون ثمار استعمارهم لنا بعد مرور عشرات السنين على رحيلهم عن بلادنا؟ إلى متى سيظل المستعمر الأميركي يجني ثمار احتلاله للعراق فيما لو خرج يوماً ما وهو قريب؟ كم ما زال أمامنا من وقت حتى نبرأ أو نشفى من أعراض الاستعمار؟ هل سيأتي اليوم الذي سنهزم فيه المستعمرين ونمنعهم من استثمار إرثهم الاستعماري بعد رحيلهم؟ ربما، اللهم إذا استأصلناه كما يستأصل الطبيب الماهر ورماً خبيثاً بحيث يمنع إعادة انتشار الخلايا المسرطنة في الجسم مرة أخرى. وهذه بلا شك مهمة شائكة للغاية نظراً لكثرة الأذناب (الخلايا) التي يتركها المستعمر بعد خروجه وقدرتها على التكاثر والتحكم بالجسم المريض أي الوطن، لكنها ليست مستحيلة إذا توافرت القيادات الوطنية الحقيقية وأمسكت الشعوب بزمام الأمور فعلياً، وهو أمر، للأسف الشديد، لم يحدث في الكثير من البلدان حتى الآن. وكم كان تشي غيفارا محقاً عندما قال: "الثورات ينجزها الشرفاء ويرثها الأوغاد"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.