نزاهة الانتخابات .. والسيادة الوطنية تعرضت الحكومة المصرية خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية لنقد رسمي علني من الإدارة والكونجرس الأمريكي في مناسبتين.. الأولي بمناسبة صدور تقرير «الحريات الدينية» الأمريكي يوم الأربعاء قبل الماضي (17 نوفمبر 2010) والذي تصدره سنويا وزارة الخارجية الأمريكية، وتضمنه اتهام للحكومة المصرية بممارسة التمييز ضد المسيحيين، ثم إعراب «لجنة الحريات الدينية» بالكونجرس الأمريكي عن قلقها من «تنامي التحريض في وسائل الإعلام والمساجد في مصر ضد الأقباط» وتأثير ذلك علي زيادة التوترات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين قبل انتخابات مجلس الشعب المقبلة «فهذا النوع من الخطاب يذكي نار المتطرفين الباحثين عن سبب لتبرير أعمال العنف ضد الأقليات الدينية» كما قال «ليوناردليو» رئيس اللجنة يوم الجمعة الماضي. المناسبة الثانية كانت بدء معركة انتخابات مجلس الشعب الجديد في منتصف هذا الشهر، وتأكيد «فيليب كراولي» المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بأن بلاده ملتزمة بتأييد ودعم إجراء انتخابات حرة وحيادية في مصر ومحملا الحكومة المصرية مسئولية تطبيق تعهداتها بإجراء انتخابات شفافة ونزيهة وضرورة وجود رقابة دولية علي هذه الانتخابات، قال كراولي «ترحب واشنطن بإعلان الحكومة المصرية التزامها بتوسيع دائرة المشاركة السياسية وضمان إجراء الانتخابات البرلمانية بحرية وشفافية بما في ذلك تسهيل عمل منظمات المجتمع المدني لمراقبة الانتخابات» مشددا علي أن «أي عملية انتخابية شفافة تقتضي أيضا وجود آلية حيادية ونزيهة لمراجعة الشكاوي والاعتراضات علي نتائج الانتخابات والرقابة المحلية طبقا للمعايير الدولية، إلي جا نب وجود المراقبين الدوليين». وأضاف «جيمس بيفر» الرئيس الجديد لبعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بالقاهرة أن «كل دول العالم تستعين بمراقبين دوليين، حتي الولاياتالمتحدة تستعين بمراقبين من معظم دول العالم في الانتخابات التي تجريها علي أرضها، ولا يقتصر ذلك علي مراقبين من الدول المتقدمة فقط وإنما يكون هناك مراقبون من الدول النامية أيضا». وجاء رد الفعل الرسمي علي لسان المتحدثين باسم الخارجية المصرية حادا، فقال إن المواقف الأمريكية تجاه الشئون الداخلية الأمريكية «أمر مرفوض بشكل قاطع من جانب مصر، ورفض هذا السلوك الأمريكي يأتي بغض النظر عن أي حجج أو ذرائع يمكن أن يسوقها البعض لتبرير هذا الأمر.. إن مصر تعتز كل الاعتزاز بسيادتها واستقلال إرادتها الوطنية، ولن تسمح لأي طرف كان بما في ذلك الولاياتالمتحدة بالتدخل في شأنها الداخلي تحت أي ذريعة، لكن يبدو أن الجانب الأمريكي يصر علي عدم احترام خصوصية المجتمع المصري بتصرفات وتصريحات تستفز الشعور الوطني المصري وكأن الولاياتالمتحدة تحولت إلي وصي علي كيفية إدارة المجتمع المصري لشئونه السياسية مضيفا أن من يعتقد أن هذا الأمر ممكن فهو واهم». وبصرف النظر عن صحة ما يقال عن ازدواجية المعايير في السياسة الخارجية الأمريكية ودعمها للنظم الاستبدادية وتجاهل الإدارة الأمريكية لانتهاكات هذه الحكومات للحريات وحقوق الإنسان وممارستها للتمييز ضد الأقليات القومية أو الدينية، كما يحدث مع الحكومة المصرية.. فما قالته الإدارة الأمريكية حول التمييز ضد المسيحيين في مصر وتزوير الانتخابات العامة أمور حقيقية لم تستطع الحكومة المصرية في ردها إنكارها أو المجادلة بشأنها واكتفت بالحديث عن الاستقلال والإرادة والسيادة الوطنية، التي أهدرها النظام الحاكم في مصر منذ انقلاب القصر في 13 مايو 1971 وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي والتبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية للسياسة الأمريكية في المنطقة والعالم. فالتمييز ضد المسيحيين وانفجار العنف والفتنة الطائفية في مصر حقيقة مؤسفة منذ عام 1972 وحتي اليوم، ونتيجة لسياسة واضحة يطبقها الحزب الحاكم بإصرار، بدءا من النص في دستور 1971 والتعديلات التالية علي أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، واستخدام الدين «الإسلامي» كمصدر للشرعية السياسية وكأداة للتعبئة الاجتماعية والسياسية، وفي تبرير القرارات السياسية، والتمييز ضد المسيحيين في التعيين في الوظائف، فيمنع وجود المسيحيين في المخابرات العامة ومباحث أمن الدولة، ولا يوجد قبطي واحد يحتل موقعا رئيسيا في القوات المسلحة أو الشرطة، ومن بين 29 محافظا هناك محافظ قبطي واحد عين أخيرا، وهناك أكثر من عشرين جامعة حكومية لا يرأس أكاديمي قبطي واحد أيا منها.. إلخ، وفي ظل المناخ الطائفي والتعصب يتراجع دور الأقباط في الحياة العامة، فبعد أن كان هناك 16 قبطيا منتخبا في أول برلمان مصري بعد دستور 1923، وارتفع الرقم إلي 23 في برلمان 1927، تراجع عدد المسيحيين المنتخبين في البرلمان الحالي إلي واحد فقط هو د. يوسف بطرس غالي «الوزير»! وليس مصادفة ترحيب الكنائس المصرية الثلاث «الأرثوذكسية - الكاثوليكية - الإنجيلية» للمرة الأولي بالتقرير الأمريكي، مؤكدة وجود تمييز ضد المسيحيين. أما تزوير الانتخابات العامة، فحدث ولا حرج، فتقارير الدوائر المختلفة لمحكمة النقض حول الطعون التي تقدم في الانتخابات العامة، والأحكام القضائية، وتقارير منظمات حقوق الإنسان المصرية والمجتمع المدني تقطع بتزوير كل الانتخابات العامة - بدرجات متفاوتة - منذ بدء التعددية الحزبية المقيدة عام 1976 وحتي آخر انتخابات لمجلس الشوري هذا العام، بما في ذلك انتخابات 2000 و2005 والتي تمت تحت الإشراف القضائي، ومقدمات التزوير في الانتخابات الحالية واضحة للعيان، ما لم تنجح الأحزاب والقوي السياسية في حث الناخبين علي الإقبال علي التصويت لحصار التزوير وهزيمته، وما لم تتوافر رقابة قد تردع المزورين. والقضاء علي التمييز ضد المسيحيين وتحقيق نزاهة وحرية الانتخابات هي في النهاية معركة الشعب المصري وأحزابه وقواه السياسية، وليس أي قوة خارجية.