استجابة لطلب بعض قراء مقالاتي السابقة عن سياسة»البطة العرجاء»التي تصر حكومتنا الحالية على التشبث بها؛لا لشيء إلا لكون رئيسها و أحد نوابه و بعض وزرائه من المبهورين بفكر»الليبرالية الجديدة» ؛ أكتب هذه المقالات بقصد التعريف بها أولاً,و فضح أهدافها المعلنة المبهرة,و مراميها اللا إنسانية الدفينة؛باعتبارها محاولة زائفة و مكشوفة لتجميل وجه النظام الرأسمالي المتوحش و القبيح ثانياً. فى هذا الصدد؛أنوه بأنني لا أدعي سبقاً فى هذا المجال؛إذ تعرض النظام الرأسمالي منذ نشأته للنقد الفلسفى و الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي ليس فقط من قبل هيجل و ماركس و غيرهما من المفكرين الاشتراكيين-من أمثال أعلام مدرسة فرنكفورت المعاصرين-بل من قبل بعض منظري الرأسمالية أيضاً- من أمثال آدم سميث و كينز-و فلاسفة السياسة-كتوكفيل و جون ستيوارت مل-فضلاً عن الكثيرين من البنيويين المعادين للماركسية-من أمثال رايت ميلز و ميشيل فوكو-ناهيك عن بعض أعلام علم الاجتماع السياسي المعاصرين؛كما هو الحال بالنسبة لبودريال و جاك إيلول و غيرهما. أذيال واشنطن على نهج هؤلاء؛يمكن الإشادة بكتابات بعض المفكرين العرب المحدثين و المعاصرين الذين قدموا انتقادات لاذعة للفكر الرأسمالي-فى طوره الحالي المتمثل في»العولمة» – و ممارسات و سياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية و أذيالها فى الغرب الأوروبي,و المؤسسات الدولية التابعة؛كالشركات المتعددة الجنسية,و البنك الدولي,و صندوق النقد الدولي و غيرها. لعل من أهم تلك الكتابات فى هذا الصدد؛كتاب»الرأسمالية تجدد نفسها»للعالم و المناضل المرحوم /د.فؤاد مرسي.كذا كتابات الصديق المرحوم/د.رمزي زكي عالم الاقتصاد الفذ-الذي لم تلق صرخاته و نبوءاته المنددة بسياسات ما عرف باسم»الانفتاح الاقتصادي»و كتاباته عن اختفاء الطبقة الوسطى فى مصر و ما سيترتب على ذلك من كوارث اقتصادية و نتائج اجتماعية وبيلة أدنى صدى فى آذان النظام الحاكم؛حتى وفاته-و هو ما فطن إليه الدكتور/جلال أمين فى كتابه الهام»ماذا جرى للمصريين؟»الذي كشف عن أسباب التدهور الأخلاقي و الفوضى الاجتماعية و الاضطراب السياسي الناجم عن سياسة»الانفتاح الاقتصادي»-فى صيغته المصرية- أو بالأحرى»خراب مصر الثاني»؛على حد تعبير الدكتور فؤاد مرسي. أنوه-بالمثل-بكتاب الأستاذ/محمد يوسف عدس المعنون»نهب الفقراء-الإنسان فى عالم التكتلات الاحتكارية»الذي قدم فيه نماذج غاية فى البشاعة عن الشركات المتعددة الجنسية و دورها المخرب في»تجريف»المكتسبات الحضارية للإنسانية جمعاء بدرجة تفوق حياة البشر الوحشية فى عصور ما قبل التاريخ.أنوه أيضاً بكتابات مفكر شاب و واعد عن»نقد الفكر السياسي الليبرالي»على المستوى الفلسفى و التاريخي فى آن؛خصوصاً فيما يتعلق بموضوع مقالاتنا هذه عن»الليبرالية الجديدة»و بالذات ما كتبه عن»جذورها الفكرية و أبعادها الاقتصادية»؛حيث توخى فيما كتب نهجاً أكاديمياً صارماً و موضوعياً فى آن. مفاسد كارثية استناداً إلى تلك المؤلفات الرائدة؛سنحاول تقديم تصور أولي مبسط يناسب»مقتضى الحال»الذي يفى بطبيعة كتابة»المقال»الموجه إلى جمهور من القراء فى صحيفة دورية.و إذا كان لنا من إضافة تذكر؛فتتمثل فقط فى منهجنا التاريخي الخاص,و رؤيتنا الاجتماعية التي تقارب دراسة الفكر فى إطار الواقع الاقتصادي الاجتماعي الذي أفرزه.كذا الاهتمام-على نحو خاص-بما حدث و ما يزال يحدث فى واقعنا المصري من إيقاع ما جرى و لا يزال يجري من تبني الحكومة الحالية سياسات تعتمد الليبرالية الجديدة نهجاً و مرجعية.و يا لها من مفارقة أن يحدث ذلك بعد موجتين ثوريتين اندلعتا أساساً ضد تلك السياسات و ما ترتب عليها من خلال القرن الخامس عشر؛ظهرت بدايات الطبقة الوسطى,و معظمها من التجار الذين حازوا ثروات طائلة من جراء النشاط التجاري؛خصوصاً مع العالم الإسلامي.كما اطلعوا على علوم و آداب و فنون المسلمين؛فحازوا لذلك ثقافة دنيوية معتبرة.و من ثم دب الصراع بينهم و بين السادة الإقطاعيين و تمكن بعضهم من تأسيس»إمارات – مدن»مستقلة.و بفضلهم أحدثوا تصدعاً فى البناء الاجتماعي الفيودالي-اللاهوتي؛و هو ما أسفر عن»النهضة الأوروبية»التي بدأت فى المدن الإيطالية ثم انتشرت فى معظم دول أوروبا؛و إن اتخذت فى كل منها طابعاً خاصاً.ففى إيطاليا؛اتسمت النهضة بإحياء التراث الدنيوي اليوناني الكلاسيكي.و فى فرنسا؛غلب عليها إحلال القوانين المدنية محل الأعراف الإقطاعية و القوانين الكنسية.و فى انجلترا كانت النهضة أدبية و فنية فى المحل الأول.و فى ألمانيا و الأراضي الوطيئة-هولندا و بلجيكا-اتخذت النهضة طابع الإصلاح الديني. طور الاكتفاء ما يعنينا-بصدد الموضوع-أن النهضة الأوروبية و حركة الإصلاح الديني شكلتا بدايات الفكر الليبرالي على النحو التالي: أولاً : على الصعيد الاقتصادي؛ظهرت بدايات القضاء على النظام الإقطاعي الاكتفائي و إرهاصات النظام الرأسمالي القائم على إحلال»النقد»محل»المقايضة»؛أي تعاظم النشاط التجاري على أنقاض»ريع الأرض»على مستوى قوى الإنتاج.كما تبلور مبدأ الحرية فى مجال العمل و مجال التبادل السلعي»دعه يعمل, دعه يمر».كما تطورت وسائل الإنتاج و تقنياته بما أدى إلى تعاظم الإنتاج فانتقل من طور الاكتفاء الذاتي إلى الإنتاج للسوق؛أي للتصدير. ثانياً : على الصعيد الاجتماعي؛جرى خلخلة البناء الطبقي؛حيث تصدرت الطبقة الوسطى-البرجوازية-قمة الهرم الطبقي,و تحررت طبقة»الأقنان»من إسار»اللوردات و الكونتات»مالكي الأرض.و تبلورت بواكير نزعة هيومانية-إنسانية-على حساب العنصرية الطائفية المؤسسة على العرقية و الدين. ثالثاً : على المستوى السياسي؛ظهرت إرهاصات»الدولة الوطنية»المؤسسة على»القانون المدني»,و اكتسى الحكم طابع الملكية الدستورية؛بحيث أصبح الشعب مصدر السلطات. رابعاً : بدأت إرهاصات النهضة العلمية؛حيث أصبحت العلوم الطبيعية و الرياضية المؤسسة على المنهج العلمي التجريبي تحل محل العلوم الدينية.كما ازدهرت العلوم الإنسانية و الاجتماعية و جرى توجيهها لصالح»الإنسان». بديهي أن يتعاظم المد الليبرالي خلال القرنين السادس عشر و السابع عشر؛ليصل أوجه خلال القرن الثامن عشر الذي شهد قيام الثورة الفرنسية؛لتجتاح رياحها بقية أنحاء أوروبا.و ظهرت ثلة من المفكرين الليبراليين الذين كانوا قوام»عصر التنوير».منهم على سبيل المثال»فرنسيس بيكون»الذي وضع أصول المنهج العلمي فى التفكير.و»ديكارت»الذي رسخ التفكير العقلاني فى مجالا السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و فهم العقائد.أما»هربرت سبنسر»فقد أبدع نظرية»التطور البيولوجي»و كرسها لخدمة السياسة و الاجتماع و العقائد.كما أسهم»سبينوزا»فى إكساب النظم السياسية و الاجتماعية بعداً إنسانياً.كما ألح»فولتير»على حرية الفكر و المعتقد,و أسهم مع»روسو»و»مونتسكيو»فى التمهيد للثورة الفرنسية.و يعزى إلى الأخير بالذات تأكيد»الديمقراطية»كأساس للحكم.و بفضل»هوبز»و»لوك»صيغت أفكار»العقد الاجتماعي»الذي حد من سلطان الملوك لصالح حريات الشعوب. لذلك؛يمكن القول أن الفكر الليبرالي المستنير كان نتاج جهود الطبقة البرجوازية فى صراعها مع الإقطاع الفيودالي,و هنا صدق حكم»روجيه جارودي»بأن»تطور نظرية المعرفة ذات مغزى طبقي فى التحليل الأخير».