في ظل السياسة الأمريكية التي تسعي للسيطرة علي العالم من خلال سعيها الحثيث لفرض هيمنتها بجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة كانت دائما هناك خطابات ثقافية تناهض «المشروع الأمريكي». ومنها الخطاب الثقافي المصري عبر تجلياته المختلفة في الشعر والرواية والسينما والمسرح.نموذج السينما الأمريكية علي مستوي التقنية والأداء كثيرا ما راود المخرج الكبير يوسف شاهين، بداية من سفره لدراسة فنون التمثيل والإخراج في جامعة «باسادنيا» بلوس أنجلوس عام 1946 حتي آخر أفلامه «إسكندرية نيويورك». وقد ظهرت علاقته بأمريكا – المكان – والإنسان – والحلم بداية من فيلم «إسكندرية ليه» 1979 وهو أول أفلامه في السيرة الذاتية، بحيث نري ذلك المزج بين الإسكندرية مكان المولد والنشأة في بداية الأربعينيات وبين الصور الأرشيفية للحرب العالمية الثانية وأفلام هوليوود ومنها صور لاستر وليامز وهتلر. السفر الي المجهول وفي بداية الفيلم يتجلي حلم السفر إلي أمريكا، من خلال مشاهدة الفتي الجامعي «يحيي» أحد الأقنعة الشخصية ليوسف شاهين لأفلام «جين كلي» فقد كان مسكونا بالحلم الأمريكي والتوق إلي دراسة السينما في أكبر المعاهد هناك، في حين توجد شخصية أخري تدعو للتمسك بالمكان الأول «الإسكندرية» وتكمن في أب إحدي الأسر اليهودية الذي قام بدوره «يوسف شاهين» والذي يؤكد دائما أن الأرض المصرية قادرة علي احتواء أبنائها وتحقيق أحلامهم وذلك عندما عزموا الرحيل بعد قيام الحرب العالمية الثانية والهجرة إلي إسرائيل وبينما يتخرج «يحيي» من كلية فيكتوريا فيتوسط له زوج أخته ليعين في أحد البنوك، لكن الفتي المسكون بالفن، لا يكتفي بتلك الحياة الروتينية فنراه يسعي جاهدا للحصول علي تأشيرة السفر لكن العائق المادي يقف حائلا دون إكمال أمنيته، فتقوم الأم برهن مجوهراتها ليستكمل ابنها ثمن التأشيرة. وبالفعل يسافر إلي بلد الأحلام والتي – في لحظة وصولها إليها – يكتشف أن الحلم يختلف كثيرا وجوهريا عن الحقيقة، وقد عبر «يوسف شاهين» عن هذه الصدمة – في انفصال الشكل عن المضمون – عبر مشهد بالغ التأثير من خلال نظرة «يحيي» الذي قام بدوره محسن محيي الدين إلي تمثال الحرية الذي كان يمثل بالنسبة له قبل سفره رمزا للشموخ وللحرية ولعظمة المكان – لكنه يتحول في عينيه لحظة رؤيته للمرة الأولي إلي ما يشبه إمرأة قبيحة، وجهها مصبوغ بمساحيق رديئة تبتسم ابتسامة وحشية، تحمل معاني من السخرية واللامبالاه. وقد امتد هذا الخيط، الذي دارت محاوره حول الإسكندرية في فيلم «إسكندرية كمان وكمان» 1990، لكن أكثر الأفلام المكملة للفيلم الأول «إسكندرية ليه» هو فيلم «إسكندرية.. نيويورك» والذي قام ببطولته محمود حميدة ويسرا عام 2004 حيث نري «يحيي» يحلم بفاتنات زيجفليد وهن يمسكن بالسلالم السحرية تحوطهن هالات من النور، فيسكنه الحلم دائما باجتياز الحواجز المكانية حتي يصل إليهن. ويختلف الفيلم الأخير عن «إسكندرية ليه» فالأول من حيث التوقيت الزمني والشخصي بها قدر كبير من الواقعية، أما الأخير «إسكندرية.. نيويورك» فهو مكمل للفيلم الأول لكنه يختلف من ناحية الرؤية الاجتماعية والسياسية، فقد تعامل «شاهين» مع الأحداث بشكل به قدر كبير من العمق السياسي والاجتماعي، خاصة في استحداثه لشخصية متخيلة هي شخصية الابن الذي يمثل الوجه الآخر لشاهين والذي يتعامل مع الأحداث من وجهة نظر أمريكية، هذا الابن الذي ينبهر بكل ما هو أمريكي ويرفض عروبته ويتخلي عن انتمائه. هذه الشخصية المتخيلة جاء بها شاهين – علي ما أعتقد – ليؤكد بها الصراع الحقيقي بينه وبين أمريكا الجديدة بما تحمله من إمبريالية قاهرة سالبة لحريات الشعوب ولأحلام الإنسانية، مما يحدو في النهاية أن يرفضها من خلال رفضه لشخصية ابنه، وهنا يتجلي الربط الحميم بين الخاص والعام عبر نسيج درامي أكثر إحكاما به قدر كبير من الواقعية. وإن كنا قد رأينا صورا من هذا النقد في فيلمه «الآخر» 1999 والذي قام ببطولته أيضا محمود حميدة ونبيلة عبيد وهاني سلامة وحنان ترك، حيث انتقد التبعية الأمريكية وأشكال الهيمنة من خلال طرحه لقصة حب تقع من أول نظرة بين شاب يدعي «آدم» وفتاة تدعي «حنان»، آدم القادم من نيويورك لأب مصري وأم أمريكية ويقوم بإعداد رسالة للدكتوراة عن الإرهاب الدولي و«حنان» صحفية شابة تعمل في إحدي صحف المعارضة. مرآة الآخر وقد اختار آدم أن يتزوج من حنان ليؤكد مصريته وينتصر لحبه، رغم المعارضة الشديدة من أمه الأمريكية لذلك الزواج، وهذه الأم هي رمز اختاره «شاهين» ليجسد به البطش والسيطرة الأمريكية. ومن ناحية أخري تقنع «حنان» «آدم» بأن رسالته للدكتوراة لابد وأن تكون حول «الإرهاب في أمريكا» وعبر سلسلة من المشاهد الدرامية تحاول الأم إفساد العلاقة الزوجية بين آدم وحنان حتي تنجح في النهاية بعد أن تخبر «آدم» بأن لحنان أخا إرهابيا. وفي مشهد آخر – يحمل كثيرا من الدلالات حول ما يمكن أن يسمي ب «المؤامرة الأمريكية» – نشاهد «الأم» الأمريكية تقابل هذا الشقيق الإرهابي بالقرب من برج إيفل بفرنسا وتتفق معه علي إبعاد «حنان» عن طريق ابنها في مقابل وعدها له من أن تحقق له حلمه في السفر إلي أمريكا ليهرب من الأحكام الموجهة ضده نتيجة عملياته الإرهابية. وعندما يقوم هذا «الأخ» باستدراج أخته من خلال أحد الأشخاص الذي وعده بأن يزوجها إياه تقوم «الأم الأمريكية» بإبلاغ الشرطة ضد هذه الجماعة الإرهابية، ويعلم آدم باختطاف حبيبته فيذهب إليها فيجد رجال الشرطة يتبادلون النيران مع الجماعة الإرهابية فيصاب الحبيبان برصاصتين يموتان علي أثرها، في مشهد دموي عصيب. وإن كان لنا أن نقول فإن فيلم «الآخر» هو أكثر أفلام «يوسف شاهين» تجسيدا للعلاقة الأمريكية مع الشعوب الأخري والتي رمز إليها بشخصية «مارجريت» الأم الأمريكية المتسلطة التي تري الأشياء كلها من زاوية المنفعة المادية والبيزنس وتستخدم أساليب قاهرة للسيطرة علي الآخرين. ومن جملها الحوارية الدالة علي ذلك مقولتها لزوجها المصري «أنا اللي يتكا عليه أنسفه نسف». هذه السيدة ذات الطابع الهستيري والتي تتعامل بشكل مرضي مع الأمور وتعيش في إطار الحلم الأمريكي، يتجلي ذلك في قولها في أحد المشاهد «أمريكا اللي محدش يقدر يدوس عليها». لقد رسمت لنا عبر أداء مميز من الفنانة نبيلة عبيد صورة مصغرة للوحش الأمريكي الضاري في زمن العولمة. من المؤكد أن الحلم الأمريكي ذا المظهر البراق قد تم الترويج له لسنوات طويلة سابقة علي اعتبار أنه الفردوس الأرضي والحل الوحيد للخروج من أزمات الحياة إلي فضاء الثروة واتساع النفوذ. الحلم والكابوس ولعل هذا التوق لهذا الحلم الكابوسي – إن صح التعبير – كان المحور الدرامي لفيلم «أمريكا.. شيكا.. بيكا» تأليف د. مدحت العدل – في أول عمل سينمائي له وإخراج خيري بشارة – أحد أهم المخرجين المجربين في العقدين الأخيرين وبطولة المطرب محمد فؤاد ونهلة سلامة وعماد رشاد وشويكار وأحمد عقل وسامي العدل. جاءت لغة الفيلم قريبة إلي الوجدان المصري، مصورة أحلام وأشواق البسطاء في عيشة كريمة، ومحاولاتهم اليائسة في تحسين أحوالهم الاقتصادية. هؤلاء البسطاء الذين يقعون في حبائل أحد تجار الحلم ويدعي فواز والذي قام بدوره «سامي العدل»، والذي يأخذ منهم ما يملكون من أموال قليلة «ثلاثة آلاف دولار لكل فرد»، ويطالبهم بالسفر أولا إلي رومانيا والتي من خلالها يمكن أن يحصلوا علي تأشيرة للدخول إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية عن طريق السفارة الأمريكية بها. سبعة أفراد ومعهم طفلة صغيرة، كل واحد منهم يحمل في طياته رغبة ما لتغيير مستقبله، وكل واحد منهم تختلف شخصيته عن الآخر، فهناك الطبيب فؤاد عماد رشاد، والذي لم يستطع من خلاله مهنته كطبيب في توفير حياة كريمة وإخفاقه في أن يفتح عيادة خاصة به مما جعله يلجأ إلي عمليات الإجهاض وغيرها من الأساليب الممنوعة في الطب، فيصل إلي حالة من اليأس والإحباط والانهيار الداخلي والكبت النفسي، مما يضفي علي شخصيته في النهاية طابعا مشوشا. أما دوسة والتي لعبت دورها الفنانة «شويكار» فهي راقصة تقدمت بها السن وولي عنها عبير الشباب وضاقت بها الحياة خاصة إصابة طفلتها الوحيدة «ريم» بفشل كلوي يحتاج إلي مصاريف كثيرة للعلاج مما دفعها إلي أمريكا، خاصة بعد أن اتصلت بمجموعة من أصدقائها المقيمين هناك ووعدوها بأن يساعدوها في إقامة مدرسة لتعليم الرقص الشرقي. في حين يجيئ دور «سها» نهلة سلامة ليقدم لنا صورة أخري من صور الانبهار بالحلم الأمريكي فرغم أنها موظفة بأحد البنوك بمدينة المنصورة إلا أنها بهرتها الصورة التي تراها في السينما عن أمريكا، فباتت تسكن أحلامها وتراودها في كل لحظة الإقامة فيها، وهو هاجس يكاد يقترب من طرحه فيلم «النداهة» تأليف يوسف إدريس مع اختلاف المكان. أما «المنسي» محمد فؤاد، فهو من أكثر الشخصيات في الفيلم تعبيرا عن نمط الشخصية المصرية، فهو ميكانيكي حاول أن يجرب حظه في بلاد كثيرة لكنه يعود دائما «بخفي حنين» لا يجني من السفر إلا السفر، وعذابات الانتظار. ومن ناحية تركيب الشخصية النفسي فهو يحمل كثيرا من متناقضات الشخصية المصرية – خاصة في سن الشباب – فهو أهوج مندفع طيب وحنون يحب الآخرين، وهو نموذج دال لابن البلد الذي يدافع بشهامة عن رفاقه ما وسعته المحاولة. وأكاد أقول أنها شخصية نمطية لصورة البطل في السينما المصرية والعربية – بشكل عام. ولعل من أكثر الشخصيات التي تجسد المأساة في هذا الفيلم شخصية «الغمراوي» الترزي البلدي العجوز الذي قام بدوره الفنان «أحمد عقل» والذي يراوده – في ظل فشل السفر إلي أمريكا – حلم العودة إلي الوطن والارتماء في أحضان أولاده، لكنه يموت مغتربا ويدفن في أرض غريبة وتكشف لحظة دفن الغمراوي قيمة إنسانية ربما لم تدركها تلك الشخصيات إلا في تلك اللحظة وهي قيمة «المواطنة» حيث يصلي الجميع عليه صلاة الجنازة ويودعونه بالآيات القرآنية والدعوات، بينما يكتشفون أن الدكتور مسيحيا حيث يرسم الصليب في لحظة الوداع ويترنم بمقاطع من الإنجيل. هذا المشهد كان بداية النهاية للأحداث حيث يقرر الجميع العودة إلي الوطن، فمصير «الغمراوي» ينتظرهم جميعا، فالموت علي أرض مصر أفضل من الحياة علي حلم لن يتحقق. وهنا تتفجر طاقات «محمد فؤاد» كمطرب وهو يغني.. «يعني إيه كلمة وطن يعني أرض.. حدود.. مكان واللا حالة من الشجن يعني إيه كلمة وطن» وفي أغنية سابقة تحمل نقدا لاذعا لمن باعوا الوهم للشباب وتُدين الفاسدين والمفسدين، كلماتها تحمل دلالات ساخرة كشفرة موسي: أمريكا.. شيكا.. بيكا تلاعبك ع الشناكل وتجيب عاليك وطيكا أمريكا.. أمريكا الفيلم في النهاية صرخة إنسانية عميقة المغزي تشير بصراحة إلي من تجاروا بالوطن من أجل مصالحهم الشخصية فليس الآخر – فقط – هو من يروج للزيف والخداع عبر «الميديا» المتقدمة بل هناك الكثيرون من ناهبي البنوك والمتاجرين بقوت الشعب من هم أكثر ضراوة في الزيف والمخادعة. في المسرح لم يقترب المسرح المصري – كثيرا – من قضية سيطرة الإمبريالية الأمريكية علي الواقع العربي، ربما يرجع ذلك إلي تشابك عناصر الرؤية إذا طرحت علي خشبة المسرح، وهذا قد يفقد العملية المسرحية – كثيرا من لغتها علي مستوي النص والأداء – هذا من الناحية التقنية. أما من الناحية السياسية فقد توجد بعض المحاذير والخطوط الحمراء التي تهدد مثل هذه الأعمال بالمصادرة والحذف، وفي هذا الإطار لم أجد سوي ثلاثة عروض مسرحية تعرضت للقضية خلال العشرين عاما الماضية، العرض الأول كان عام 1994 تحت عنوان «ماما أمريكا» بطولة الفنان محمد صبحي ورياض الخولي وشعبان حسين وعبدالله مشرف وحسام فياض وهدي هاني وفادي خفاجة وعزة لبيب وهناء الشوربجي وزينب وهبي. وتدور أحداث المسرحية في إطار اجتماعي عبر لغة رمزية تستدعي دلالات سياسية، من خلال أسرة مصرية «أسرة منافع» التي تحمل تراثا إنسانيا وتاريخيا عميقا ذا بعد إسلامي وعربي، حيث يتمسك أفرادها بالتقاليد العربية الأصيلة، وتقوم العلاقة بين أفرادها علي مبدأ التعاون والمحبة والتآزر، لكن مع تغير الزمن وتحول العلاقات داخل الأسرة تظهر شخصية «الشفاط» التي تستولي علي الأرض التي تملكها «أسرة منافع»، وتقوم هذه الشخصية ذات البعد السلطوي التي تقتنص حقوق الآخرين دون وجه حق لفرض هيمنتها بمحاولات مضنية للتفريق بين أبناء «أسرة منافع» وإيقاع العداوة فيما بينهم. أما عرض «الواد ويكا بتاع أمريكا» والذي عرض خلال شهر أكتوبر 1998 من تأليف يسري الإبياري وبطولة وائل نور ووفاء عامر وممدوح وافي وإخراج عادل الأعصر في أول تجربة مسرحية له، فلم ينل الترحيب النقدي والجماهيري الذي حصلت عليه مسرحية «ماما أمريكا» وقد يرجع ذلك لتذبذب الرؤية وتشتت الأحداث وعدم وجود رابط بينها حتي أننا نكاد نقول إن العرض ابتعد كثيرا عن جماليات «مسرح الرفض» الذي كان يقصده صناعة فنحن جميعا ندري أن النيات الطيبة لا تؤدي عادة إلي الجنة. أعمال سردية وفي الرواية ظهرت عدة أعمال عبر عن هذه العلاقة بين أمريكا والعرب منها رواية «شيكاغو» لعلاء الأسواني، و«أمريكانلي» لصنع الله إبراهيم، بالإضافة إلي عدة أعمال قصصية منها المجموعة القصصية «وجوه نيويورك» لحسام فخر، والمجموعة القصصية «القريب الأمريكي» لعلاء أبوزيد. وهي أعمال تناقش فكرة الاغتراب في ظل المجتمع الأمريكي وتحاول فض الالتباس حول علاقة الشرق بالغرب.