رحل محمد حلمي يسن، الرفيق إسماعيل، المناضل الصلب العنيد، الذي قدم حياته كلها فداء لوطنه وشعبه، قضي حلمي فترة طويلة من حياته هاربا في نجوع مصر، بسبب مطاردة السلطة له وسعيها للقبض عليه. كان واحدا من أهم قادة حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري، وعندما اتحدت الأحزاب الشيوعية المصرية، غدا حلمي يسن واحدا من أبرز مؤسسي الحزب الشيوعي المصري (5 يناير 1958) وقادته، كان عضوا بالمكتب السياسي والسكرتارية المركزية للحزب، والمسئول المركزي لمحافظة القاهرة. كان حلمي يسن مناضلا من طينة متميزة، هادئا، صبورا، طويل النفس، قوي الارادة، موضوعيا، لا يستفز أحدا ولا يستجيب لاستفزاز أحد، بسيطا، كريما، ودودا، خدوما، يمتلك طاقة إنسانية هائلة. وألقت السلطة القبض علي حلمي يسن، ليلة رأس السنة عام 1959، مع الحملة الباطشة التي شنها النظام علي كل القوي الوطنية الديمقراطية والاشتراكية، والسلامية والنقابية، بحجة انتهاء الصراع مع الاستعمار وبدايته مع اليسار، ونقل من سجن القلعة، إلي منفي الواحات، إلي سجن الحضرة بالإسكندرية حيث قدم ورفاقه إلي المحاكمة في قضية أطلق عليها اسم «قضية الشيوعية الكبري». وكانت قيادة الحزب، خارج جدران السجون والمعتقلات، قد أصدرت قرارا بضرورة أن تعترف العناصر الحزبية القيادية والجماهيرية، التي سوف تقدم للمحاكمة، بعضوية الحزب الشيوعي المصري علانية، تأكيدا لحق الحزب الشرعي والدستوري في الوجود القانوني. ويعلن حلمي يسن موافقته علي هذا القرار والتزامه بتنفيذه، رغم أنه لم تضبط معه، عند القبض عليه، أي مضبوطات تدينه من الناحية القانونية، باعتبار أن هذا الإعلان إنما هو موقف سياسي في الأساس. وانعقد المجلس العسكري للمحاكمة من الفريق هلال عبدالله هلال قائد المدفعية رئيسا، والعميد فهمي طويلة عضوا، والعقيد سامي عبدالحق مدعيا عاما، في 15 أغسطس 1959، وتنتهي المحاكمة في 3 أو 4 نوفمبر 1959. ويتعرض حلمي يسن لضغوط شديدة من البعض حتي لا يعترف بالعضوية لكنه يصر أن يمثل أمام المحكمة العسكرية حتي يعلن في دفاعه السياسي الرائع: «إنني أتهم جمال عبدالناصر بانقلابه علي نظام الحكم، ولست أنا الذي يقوم بالانقلاب، وهؤلاء الموجودون في القفص، إنني أطالب بالعودة إلي الأوضاع السليمة، أوضاع وحدة القوي الوطنية، بما فيها الطبقة العاملة والحزب الشيوعي». ويواصل «إن ما أراه أمامي غريب للغاية، الشيوعيون يحاكمون بعد أن كانوا في الشوارع، إننا نقول بأعلي صوت إننا شيوعون.. إن نقدنا لعبدالناصر لم يكن نقدا هداما لكنه كان نقدا بناء للحكم وتصحيحا للثورة»، وطرح لماذا الحزب الشيوعي وضرورته وأهميته، وركز في دفاعه عن ما هية الديمقراطية والجانب البرنامجي لها: البرلمان المنتخب، ورئيس الجمهورية المنتخب.. إلخ. ويسأل رئيس المحكمة: - لماذا تقدم أنت هذا الدفاع عن الحزب الشيوعي؟ وتجئ اللحظة التاريخية الفارقة، ويعلن البطل الشجاع حلمي يسن: - المسألة يا افندم، أنني أتشرف بكوني عضوا بالحزب الشيوعي المصري. كانت تلك هي المرة الأولي، في تاريخ الشيوعيين المصريين، التي يعلن فيها واحد منهم أنه عضو بالحزب الشيوعي، كان المعتاد أن يدافع المناضل عن فكره الشيوعي، لكنه لا يعلن انتماءه التنظيمي، أعلن حلمي يسن المناضل المقاتل عضويته إيمانا بأن المعركة مع النظام حينها كانت سعيه للإجهاز علي الشيوعيين، وسعي الشيوعيين من جانبهم إلي تأكيد حقهم الدستوري في أن يكون هنالك حزب شيوعي ينتمي الناس إليه. يقول حلمي يسن «لحظة نطقت الكلمة ثبتت صحة موقف الحزب، أنني أحدد ذلك حتي ردود الفعل التي أحدثتها هذه الكلمة، في منصة المحكمة، وفي قفص الاتهام بين الزملاء، وفي القاعة، وبين المحامين، وبين رجال المباحث، إذ لو فجرت قنبلة في ذلك الوقت، لما أحدثت ذلك الذي حدث، ذهلت المحكمة وتحول الرفاق إلي عمالقة. ويسأله رئيس المحكمة: - هل يا ابني يوجد حزب شيوعي في مصر؟ ويجيب حلمي يسن في قوة: - نعم يوجد في مصر حزب شيوعي، وهذه المحكمة منصوبة لمحاكمة هذا الحزب. - أين هذا الحزب؟ قل لي أين هذا الحزب ومن هم أعضاؤه؟ - الحزب الشيوعي يا افندم موجود في الحقول، في المصانع، في الجامعات وفي المدارس ووسط المثقفين وسوف نلتقي، في كل من هذه الأماكن، بالحزب الشيوعي ممثلا في أعضائه المنتمين لهؤلاء الناس. وأنهي رئيس المحكمة كلمة حلمي يسن التي لم تكن قد انتهت بعد، أمر بفصل الميكروفون الذي أمامه، وحكم عليه بالسجن عشر سنوات أشغال شاقة، لم يكن هناك ما يدين حلمي يسن البتة، غير إعلانه الباسل «أنا عضو في الحزب الشيوعي». وينقل حلمي يسن وزملاؤه من سجن الحضرة إلي أوردي ليمان أبوزعبل حيث توفرت أشكال من التعذيب فاقت تعذيب المعتقلات النازية. في تلك الأثناء كانت زوجته البطلة المناضلة ثريا أدهم قد قبض عليها في حملة مارس 1959، وحكم عليها بالسجن ثلاث سنوات. ويخرج حلمي يسن من منفي المحاربين بالواحات الخارجة في مايو 1964 بعد صدور عفو من المسجونين الشيوعيين. وعندما تظهر فكرة المنابر ثم الأحزاب يكون حلمي يسن من القوي الأساسية المؤسسة لحزب اليسار، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، ويحتل فيما بعد، موقعا مهما في جريدة «الأهالي». واليوم يرحل محمد حلمي يسن بعد عمر طويل قضاه كله في خدمة الشعب والاشتراكية. اليوم ترجل الفارس عن صهوة جواده. رحل البطل وقد ترك وراءه سيرة عطرة، وذكري سوف تدوم أبدا، كان مثالا رائعا يحتذي في وقت تجف فيه ينابيع المثل العليا. وداعا أيها البطل.. وإلي لقاء