«في القرية جمعت كل ما أمتلك حتي أوفر نفقات زواج أختي، وفيما أنا عائد إلي القاهرة سمعت أن عدداً من رفاقي قبض عليهم فقررت اقتسام المبلغ، النصف لأسر الرفاق المعتقلين، والنصف للعروسة». حلمي يسن هو واحد من ابناء الأكابر ليس في قريته «أبو صير الملق» وحدها وإنما في كل مديرية بني سويف. والده كان واحداً من الأعيان أو بالدقة كبار الأعيان، وفي ذلك الزمان كان كبار الأعيان يتم استدعاؤهم مرتين في العام إلي قصر عابدين لحضور التشريفة الملكية ومصافحة مولانا جلالة الملك. (يوم عيد ميلاده ويوم عيد جلوسه)، الأب المفعم بروح الأكابر اصطحب ابنه الطفل حلمي لحضور التشريفة في سابقة لم تكرر. رجال تشريفات القصر حاولوا إبعاد الطفل فثار كل أكابر بني سويف وصمموا - من أجل عيون كبيرهم- علي حضور الابن. وقد كان، الجد شديد الثراء ثم تفرقت ثروته علي تسعة ابناء، ووالده نال نصيبا كبيرا من الثروة والأرض. وعاش هو والأسرة عيشة مترفة. كان الوالد مثقفا ومتحررا والأم التي كانت طالبة بالمدرسة السنية كانت أيضا تهوي القراءة، ومع اشتعال ثورة 1919 كان الأب والأعمام في المقدمة، وكانوا جميعا وفديين وبرز منهم واحد من أشهر الأسماء الوفدية التي اندفعت وبلا حدود في الولاء للوفد وللنحاس باشا وهو الاستاذ حسن يسن. والطفل حلمي يرضع السياسة منذ البداية وعندما تعلم القراءة كان هو ومجموعة من الأطفال يقفون علي مشارف القرية انتظارا للبوسطجي الطواف الذي يأتي حاملا لفافتين لجريدتين اشترك فيهما الأب وكانتا المنبع الوحيد للتطورات السياسية في قرية لا تصلها إلا هاتان النسختان (كوكب الشرق والجهاد) وعندما يتسلم حلمي اللفافتين يقف بقامته القصيرة ليقرأ بصوت جهوري مفعم بالحماس أهم المقالات علي جمهور يحتشد سريعا من رجال القرية.. وعندما هدأت الثورة وبدأت الانشقاقات في حزب الوفد كانت المعارك الانتخابية ضارية وكان الأب قائدا في هذه المعارك التي كثيرا ما يستخدم فيها السلاح والعنف ودوما تنتهي المعركة ، إما بفوز المرشح الوفدي وإما بدخول الأب إلي السجن.. وفي انتخابات برلمان الطاغية صدقي تقرر أن يزور الباشا المدير بنفسه هذه القرية المشاكسة ليضمن نجاح مرشح الحكومة. وتحركت الأم جمعت كل نساء القرية وأحضرن طفلا أسمر اللون وجردته من ثيابه وبللته بالماء والطين ومددنه بعرض الطريق الوحيد المؤدي إلي القرية، وما إن اقترب موكب الباشا المدير حتي بدأ الصراخ والعويل حزنا علي الغريق المزعوم لكن المدير، ربما اكتشف الملعوب، فحاول اختراق حشد النساء وهنا تصدي له الرجال بالحجارة والنبابيت وانتهت المعركة بالقبض علي الأب والأم ومعهما عديد من رجال القرية ونسائها. وفيما كان حلمي يحاول انجاز تعليمه الثانوي بالقاهرة كانت الأسرة تتهاوي اقتصاديا، رجال الأسرة وفيهم الأب أدمنوا المخدرات وبددوا ثروتهم وتبدد معها نفوذهم. وطوال المرحلة الثانوية كان «حلمي» وفديا نشيطا ومتحمسا ومشاركا في كل المظاهرات التي كان يقودها دوما حسن يسن، زعيم الطلبة الوفديين. وككل شاب وفدي متحمس انضم لفرق القمصان الزرقاء، لكنه شعر بالحزن في طابور الاستعراض عندما كان د. محمد بلال قائد فرق القمصان يهتف أمام الطابور «شبابنا للملك والوفد» وجماهير الطابور تردد خلفه الهتاف. وفي أعماقه قال حلمي لنفسه للوفد نعم ولكن للملك لا.. وخلع القميص الأزرق وبقي وفديا متحمسا، وفي عام 1936 حصل علي شهادة البكالوريا قسم علمي، وفقد الأمل في استكمال تعليمه فالأب افلس تماما وكان عليه البحث عن وظيفة ليعول الأسرة، وتوظف في المعامل المركزية لوزارة الصحة بوظيفة مساعد معمل كيماوي والراتب خمسة جنيهات.. وإذ تشتعل الحرب العالمية الثانية، التهبت نقاشات لا تنتهي حول من يقف مع من؟ كل من كانوا حوله يؤيدون هتلر وموسوليني ضد الاحتلال الانجليزي أما هو، ولا يدري لماذا، فقد وقف ضد النازي وساند الحلفاء وخاض في ذلك معارك كلامية لا تنتهي، وفي غمار النقاش المحتدم دعاه أحد أقاربه إلي ندوة تناقش ذات الموضوع وفي 5 شارع عدلي خطا حلمي يسن أولي خطواته نحو وعي جدي ومستقبل جديد ونحو مصير أبدي.. تركنا الفتي وهو يخطو نحو إشراقة الشمس، ففي 5 شارع عدلي كان مقر «جماعة الدراسات» تلك الجماعة التي تشكلت كبديل لاتحاد أنصار السلام، وهناك التقي عديدا من الشخصيات الملهمة كان هناك بول جاكو دي كومب ويوسف درويش وصادق سعد وريمون دويك وعبدالعزيز فهمي ومحمد إسماعيل، ومع تراكم الندوات والمحاضرات كان الضوء يتراكم والفتي يقترب أكثر فأكثر من وعي جديد، وإذ يتزايد عدد المصريين في «جماعة الدراسات» يجري تجميعهم في جماعة جديدة «جماعة الشباب للثقافة الشعبية» وهناك تابع محاضرات من نوع جديد، فالمحاضرون الشيخ أمين الخولي الذي حدثهم عن فهم مستنير للإسلام وإلي بنت الشاطئ وعبدالحميد الحديدي وكانت العيون اليقظة تتابعه واكتشفت إصراره ووعيه فقرروا منحه جرعة تدريب ودعوه إلي أن يقرأ دراسة مترجمة عن خزان أسوان أمام المجتمعين، ثم خطوة أخري نحو الاقتراب من الفلاحين والعمال، وكانت مدرسة محو الأمية في قرية ميت عقبة وأخري في بولاق للعمال، ومع محو الأمية كانت محاضرات مبسطة عن التاريخ والثقافة العامة، والفتي الملتهب حماسا ازداد حماسا، ينتهي من عمله في المعامل المركزية لوزارة الصحة فينطلق إلي الترمواي ليركب حتي نهاية الخط حيث مكان مسرح البالون الحالي، ثم سيرا علي الأقدام لعدة كيلومترات حيث الفلاحين تلاميذه في فصل محو الأمية في ميت عقبة.. وعندما صدرت مجلة «الفجر الجديد» كلف بأن يتسلم عددا من النسخ ليقوم ببيعها فكان الأكثر قدرة علي البيع ثم أسهم في تحريرها بعديد من التعليقات وقعها باسم «محيي» أحيانا وأحيانا أخري باسم «حمادة»، ويأتي يوليو 1946 وتأتي معه أكبر حملة بوليسية ضد القوي الاشتراكية والتقدمية وكل الليبراليين واليساريين المصريين، ورأينا كيف دفع حلمي نصف ما خصصه لزواج أخته لأسر السجناء وترك النصف الآخر للعروسة. وفي سبتمبر 1946 اتصلت به زوجة ريمون دويك وأبلغته بموعد سيلتقي فيه مع شخص في ميدان الإسماعيلية «التحرير» هناك وجد صادق سعد، سارا معا وبهدوء قال صادق: أود أن أبلغك قرارا مهما، وأرهف حلمي السمع.. وإذا بالقرار أنه تقرر منحه العضوية، صاح حلمي «يا نهار اسود أمال أنا كنت إيه طوال الست سنوات الماضية» وأجاب صادق بذات الهدوء «كنت مرشحا»، وهكذا وبعد ست سنوات من نضال ساخن أصبح حلمي عضوا في خلية لتنظيم «طليعة العمال» وكان معه في الخلية عبدالعزيز فهمي ومحمد إسماعيل وسائق أتوبيس اسمه عم محمد وفي الاجتماع الأول ألقت الخلية علي عاتقه مهام كثيرة مثل أن يعمل علي إنشاء رابطة لمساعدي المعامل بوزارة الصحة.. العمل علي إنشاء ناد رياضي بحي الخليفة.. الانضمام إلي لجنة حزب الوفد بحي الخليفة.. جمع توقيعات للمطالبة بانتخابات حرة تجريها حكومة محايدة.. الاشتراك في توزيع المنشورات السرية الحزبية.. ولعل هذه المهام توضح بذاتها مسارات عمل هذا التنظيم، وكانت دراسة الماركسية منتظمة في اجتماعات الخلية.. وذات يوم حددوا له موعدا في سرية تامة ليجد نفسه في شقة بشارع الشيخ ريحان أنه مؤتمر مدينة القاهرة، كان المندوبون 12 وجري انتخابه مسئولا للقسم ثم تم تصعيده إلي لجنة منطقة القاهرة، وفي عام 1948 تعلن الأحكام العرفية ويقبض علي عدد كبير من الرفاق ويتم تصعيده إلي اللجنة المركزية، وفي عام 1949 وفيما كان قد استقر وظيفيا وأصبح مساعدا للمدير العام للمعامل المركزية وزاد راتبه إلي 15 جنيها، استدعي لمقابلة مسئول وتم ترتيب اللقاء بحرص شديد وهناك التقي بأبوسيف يوسف الذي سأله بهدوء: هل أنت مستعد للاحتراف؟ وبلا تردد خرجت نعم من فمه مفعمة بالحماس، وبعد يومين استقال من الوظيفة ووهب نفسه كلية للنضال وكان راتبه كمحترف ستة جنيهات، وبعد فترة قبض عليه وأفرج عنه ثم قبض عليه ليفرج عنه، وأصدر له التنظيم قرارا بالاختفاء والسفر للإسكندرية، الاختفاء هنا له مذاق خاص، أن تبحث عن عمل لنصف الوقت يكون غطاء وتعتمد علي دخله في المعيشة ولا تكلف التنظيم شيئا، وعمل كمدرس خصوصي، ثم توجه إلي المحلة ليعمل ممرضا في عيادة للأمراض الصدرية. ويأتي يناير 1959 ليكون ضمن المقبوض عليهم ويقف أمام قضاة المجلس العسكري العالي معلنا «أنا أعتز وأتشرف بأن أعلن أنني عضو في الحزب الشيوعي المصري، ويحكم عليه بالأشغال الشاقة ثماني سنوات نال فيها من التعذيب الوحشي ما ناله كل الرفاق.. ويبقي حتي أبريل 1964 حيث يفرج عن الجميع».. ومع أول شعاع لمنبر اليسار كان حلمي يسن معنا وظل معنا حتي الآن.. وتلقيت رسالة خطية منه يحكي فيها بعض ما فاته أثناء حواري معه اختتمها قائلا «إن هذا التاريخ أذكره بكل احترام واعتزاز وفخر واعتبر أنني أديت بما فعلته بعضا من دين للوطن والشعب والعقيدة التي جعلت مني إنسانا آخر». وأنت تستحق يا رفيقنا العزيز المزيد من الفخر.