مناضلون يساريون سيد سليمان رفاعي «1» «ظللت طول حياتي النضالية أحارب الانقسامية، لكن أخطاء رفاقي في عام 1953 وإلحاح رفاق آخرين أغوتني بالانقسام وكان خطأ حياتي، إذ أحسست أنني انتهيت». سيد سليمان رفاعي في حوار معه قبل وفاته بعدة أسابيع وفي أول حواراتي معه (12/1/1976) ولم يكن مرض السرطان قد أتي ليفترسه كان يحكي قصة حياته بسلاسة ومرح «أنا من أسرة فقيرة بل شديدة الفقر من قرية قرب بنها، أبي فلاح ابن فلاح لكن الأرض الشحيحة دفعته إلي وظيفة عسكري بوليس، هو فلاح بعض الوقت وعسكري طول الوقت، كانت مهنة العسكري هي مفتاح تصرفاتي وتصرفات أبي، فماذا يكون حلم العسكري لابنه؟، أن يصبح ضابطا، لكن أحلام الفقراء نادرا ما تتحقق» ويمضي سيد سليمان «عندما حصلت علي الابتدائية كنت أهوي القراءة بصورة غريبة، طوال أيام الإجازة أقرأ في روايات الجيب التي اشتهرت بين القراء في ذلك الزمان، ولم أزل أذكر أعدادا منها ترجمت قصصا عالمية لديستوفسكي وتولوستوي وغيرهما، كنا في عام 1937 والأب في حيرة من أمره فالضابط يتخرج في المدرسة الثانوية وهي دراسة خمس سنوات وتحتاج لمصروفات عديدة ثم إن القبول بكلية البوليس يحتاج إلي واسطة، وزملاؤه قالوا له: كيف رفض أبناؤهم في كلية البوليس لأن الأب عسكري، فكيف يكون هناك ضابط أبوه عسكري؟ طوي الأب حلمه في قلبه وأرسل الابن إلي المنصورة ليدرس في مدرسة الصنائع قسم ميكانيكا لأن الدراسة فيها ثلاث سنوات، وبدأت حكاية سيد مع صديقه وبلدياته أنور، فأنور هذا رغم صغر سنه يعمل في مهنة خطيرة هي إصلاح السلاح غير المرخص، وكان يتعامل مع عصابة لصوص أشد غرابة، فهي تسرق الأغنياء فقط وتخصص نصيبا من حصيلة المسروقات للتوزيع علي الفقراء «قال لي أنور إنهم شيوعيون» وكانت أول مرة أسمع فيها هذه الكلمة، لكن دهشتي تضاعفت عندما علمت أن أبي وكان يعمل آنذاك في السنبلاوين حيث مقر هذه العصابة، كان يساعد هذه العصابة بتسريب معلومات لها عن تحركات واستعدادات قوة البوليس في السنبلاوين ويبلغهم بأسماء المرشدين المخصصين للبحث عنهم والتجسس عليهم»، وفي مدرسة الصنايع تخرج عام 1940، وهنا وقع هو والأب في أكبر خدعة حكومية تلقاها في حياته، كانت هناك مدرسة اسمها ميكانيكا الطيران، وكانت تقبل الحاصلين علي الابتدائية ليتخرجوا برتبة ميكانيكي طيران، وفي عام 1940 أعلنت الحكومة أنها ستقبل دفعة من الحاصلين علي دبلوم صنايع قسم ميكانيكا، وأنهم سوف يعينون بعد تخرجهم برتبة ضابط طيار، وتجدد الحلم من جديد وازدهرت آمال الأسرة جميعها فحلم أن يصبح ابنها ضابطا أصبح قريب المنال، أمسك العسكري بيد ابنه مسرعا إلي القاهرة ليبدأ رحلة الحلم، ويمضي سيد رفاعي في حواره معي «كنت في ذلك الحين بعيدا عن السياسة تماما باستثناء هذا الحديث الغامض عن شيوعية يحققها اللصوص في السنبلاوين، كنت معجبا بفاروق كملك شاب، وأحسست أن حلمي سيتحقق علي يديه فأصبح ضابطا في جيشه، وكانت دفعتنا في المدرسة مكونة من 175 متطوعا، وخلال الدراسة أبلغنا أننا سنتخرج مبكرا فمدة الدراسة أصبحت سنتين فقط لأنه تقرر عدم تخريج ضباط في هذه المدرسة وأننا سنكون مجرد ميكانيكيي طيران، وبدأنا في عمليات احتجاج تلقائية علي هذه الخديعة وتحول الاحتجاج إلي تمرد واعتصامات بالخيام، رفض للخروج إلي الطوابير، امتناع عن الطيران، وفي مواجهة ذلك كانت إدارة المدرسة تحاول أن تروضنا بقسوة شديدة سجن وجلد وحرمان من الإجازات، لكن الغضب ظل مستمرا.. طلاب من زملائنا انتحروا احتجاجا، والميسورون منا امتنعوا عن الإجابة في الامتحانات لكي يتم فصلهم، وفي عام 1942 وبينما كنا علي وشك التخرج سمعنا بالقبض علي اثنين من زملائنا هما: حسن التلمساني وحبيب سليم بتهمة الشيوعية، وهكذا عرفت لأول مرة أن الشيوعية شيء آخر غير أن تسرق وتوزع الحصيلة علي الفقراء، ثم كانت واقعة هرب الطيار سعودي إلي قوات المحور وحادثة محاولة هرب عزيز المصري باشا في ذات الاتجاه، وبدأت أجد نفسي مهتما بالسياسة وكانت حواراتنا في الميس وفي المعسكر كلها حول المسائل السياسية لكن غضبي كله حتي ذلك الحين كان منصبا علي خديعة قادة الجيش لنا وعدم تخرجنا كضباط، وعندما انتقل السرب الذي أعمل به برتبة شاويش إلي السويس بدأت في إظهار تمردي وانضم إلي زميل اسمه حسن جوهر وبدأنا نتناقش معا في سرية تامة عن كيفية الانتقام من قادة الجيش الذين خدعونا واتفقنا علي تشكيل تنظيم سري يكون هدفه اغتيال كل قادة الجيش والطيران انتقاما منهم، وفيما نحن منهمكون في تشكيل هذا التنظيم، نزلت إلي القاهرة في إجازة، وكنت لم أزل أتصل بزملاء الدفعة محاولا أن أختار منهم الأكثر إحساسا بالظلم لأضمه إلي تنظيمي، وقابلت واحدا من زملاء الدفعة هو محمد عزب قابيل وفيما بدأت أفاتحه في الانضمام إلينا في تنظيمنا فاتحني هو في الانضمام إليه، فالاغتيالات لن تجدي شيئا ولكن المهم هو أن نسعي إلي قلب نظام الحكم كله ووافقت علي الفور»، وبعد عدة أيام قاده محمد عزب قابيل إلي شارع الهرم حيث حضر اجتماعا في أحد المنازل كان هناك حوالي 15 شخصا.. «وحضر الزعيم وهو أنور كامل، وبدأ هو في حديث عن موضوعات معقدة، والآخرون يحاورونه بأسلوب أكثر تعقيدا وباختصار لم أفهم شيئا، لكننا وفي ختام الجلسة وقفنا لننشد معا: يا جموع الشعب هيا .. حطمي كل القيود وأشعلوا النار سويا .. وأبدأوا زحف الخلود يا جنود الخير والحرية ويبتسم سيد رفاعي قائلا: وكانت هذه هي الكلمات الوحيدة التي فهمتها وبعد فترة اتصل بي محمد عزب قابيل لأحضر اجتماعا آخر وعقد الاجتماع في منزل زميلنا في سلاح الطيران سيد حافظ وحضر الزعيم أنور كامل يلقي محاضرة عن المادية الجدلية وحاولت جهدي أن أفهم حرفا واحدا حتي لا يتهمني الجالسون بالجهل لكنني وبصراحة لم أفهم شيئا، وأصبت بإحباط شديد، لكن المهم في الأمر هو أن الزعيم اختفي ولم تعد هناك اجتماعات وسألت عزب فقال إنه لا يعرف أين ذهب أنور كامل وألمح إلي احتمال أن يكون قد خاف من مواصلة العمل السري.. وطويت أحلامي، وبقيت في السويس لأعاود التفكير أنا وحسن جوهر في مشروعنا لاغتيال قادة الجيش والطيران» لكن محمد عزب قابيل أتاه بعد فترة باقتراح آخر.