مناضلون يساريون زكي مراد (2) «ولأنني عشت محنة الانقسامية فإنني أخوض دوما معركة الوحدة بين كل القوي الوطنية والثورية» زكي مراد ونعود إلي فتي نوبي يشتعل حماسا وحيوية يعيش في قلب النوبيين في عابدين والفوالة ويقف علي عتبات الجامعة. كانت مصر تغلي وكان يغلي معها شوقا للحرية والتحرر، وكان يغلي مع النوبيين سخطا علي هذه الطبقة التي جردتهم من كل شيء الأرض والنهر والنخيل والأمل، لكنه أبدا لم يفقد بوصلة النضال ويروي في حواري معه «ذات يوم جاء محمد نورالدين وكان سياسياً نوبياً سودانياً يعلن تعلقه بمصر وبأعتاب القصر الملكي وبدأنا حوارا علي مقهي بالفوالة، وهمس بالنوبية لماذا لا نعمل معا وسرا من أجل الانفصال عن مصر وعن السودان ونؤسس دولة نوبية» كان زكي ومحمد خليل قاسم ينصتان في قرف وانتفضنا معا ضده وتوسل لهما ألا يفشيا سره، ووعداه بذلك، زكي يناضل ضد الإقطاعيين والاستغلاليين والقصر الملكي من أجل حقوق الشعب المصري كله ومن أجل الوطن المصري كله، وظل هو ورفاقه النوبيون يتعقبون دعوة الانفصال حتي قضوا عليها تماما». وفي الجامعة أصبح الفتي ملء السمع والبصر وخاض وبنشاط معركة تأسيس «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» ويتألق ثورية وحماسا وشعرا في المسيرات الحاشدة في 21 فبراير و4 مارس (1946)، ويعمل زكي بلا كلل في أكثر من اتجاه وسط النوبيين وفي قسم الطلاب وفي قسم الأحياء وفي أنشطة جماهيرية عديدة، ويتطلب الأمر أن يقترب بمسكنه من الجامعة، فالسير علي قدميه من الفوالة إلي الجامعة يستغرق زمنا ولا قدرة علي دفع ثمن المواصلات، وأتي إلي غرفة معلقة هي أيضا فوق سطح متهالك في المبتديان. ويتوالي النشاط وتتوالي الضربات الأمنية ويتوالي السجن لكنه يواصل، ويحكي في حواره وهو يضحك ضحكته المميزة «كانت الضربات تتلاحق، وذات يوم مررت علي محل شحاتة النشار في شارع السد فقال لي والده إن مخبرين حضروا وسألوا عليه وقالوا إنه مطلوب، وأدركت أن ثمة حملة قادمة فقررت إبلاغ أعضاء لجنة القسم لتنظيف منازلهم من أي أوراق يمكن ضبطها، وصعدت مئات السلالم وأنا أجري من بيت إلي بيت محذرا الرفاق وعندما انتهيت من تحذير الجميع تذكرت أنني نسيت نفسي وأن غرفتي بها أوراق كثيرة فأسرعت لأجدهم في انتظاري وقبضوا علي ومعي أكوام من المضبوطات». ويصبح زكي، وبعد فترة، عضواً في اللجنة المركزية لمنظمة حدتو، وهي في أوج ازدهارها (1950 - 1953) وتكون سنوات مجد حقيقي حركة أنصار السلام التي هي بذاتها جبهة تضم قوي وطنية تمتد من باشاوات.. إبراهيم باشا رشاد وحفني باشا محمود وفنانين وفنانات ومثقفين وأدباء وشعراء وحزبيين من مختلف الاتجاهات، واللجنة التحضيرية لاتحاد نقابات عمال مصر.. والاستعدادات تجري علي قدم وساق لعقد «مؤتمر شعوب الشرق الأوسط» الذي دعت إليه حدتو لتوحيد نضال الشعوب العربية ضد الاستعمار والصهيونية، وفيما يتألق الفعل الثوري المتعدد الجوانب وتتصاعد الدعوة إلي تأسيس جبهة وطنية ديمقراطية.. يفعلها الرجعيون وعملاء الاستعمار والقصر الملكي وتحترق القاهرة، ويقبض عليه ليفرج عنه بعد ثورة يوليو، ويكون الزمن الصعب أن نؤيد ثورة الجيش في مواجهة رفض الحركة الشيوعية العالمية وكثيرين من الشيوعيين المصريين، وأن تعمل ضدها في آن واحد عندما تنتهك الديمقراطية.. وتفتح المعتقلات والسجون ويهرب زكي مراد ويختبئ في بدروم بيت بالدقي «بجوار فرن الجهاد» وكنا نحن نشتعل حماسا، نحن طلاب حدتو، ونغرق جدران القاهرة بشعارات ضد الديكتاتورية العسكرية.. وابتعدنا بالطبع عن موقع سكننا في العباسية.. فكتبنا علي جدران البدروم الذي يعيش فيه هاربا هو وخليل قاسم ومحمد شطا وهم استشاطوا غضبا وخوفا من جذب أنظار الأمن، لكنه ضج فرحا بالرفاق ينشطون، وفي هذه الفترة أعمل زكي كل قدراته من أجل تأسيس «الجبهة الوطنية الديمقراطية» وأقام لها قواعد عدة، ويقبض عليه وإلي السجن الحربي، وهناك يكتب رثاء لأبيه الذي رحل وهو في السجن.. يا أبي إني أعيش في جحيم مستعر ليس لي غير كفاحي والصباح المنتظر كنت أرجو أن تعيش لتراني أنتصر أنا لم أهدك شيئا في حياتي الماضية غير أني كنت أنوي في حياتي الآتية أن تكون الباقة المهداة دنيا ثانية وطنا حرا سعيدا ونفوسا عالية ويحاكم أمام محكمة عسكرية والحكم القاسي ثماني سنوات أشغالاً شاقة.. وتمضي فترة السجن ولا يخرج بل يعتقل ليفرج عنه في أبريل 1964، وتمضي أحداث عديدة قرار الحل - النكسة - ويوم النكسة يتقرر إعادة تأسيس الحزب ويخوض المعركة بكامل قواه وبكل تفاؤله الذي يطغي علي كل الصعاب وتتألق مطبوعات «أحمد عرابي المصري» «الاسم السري للحزب الجديد» ويكون لزكي أكثر من تقرير وأكثر من دراسة كلها تتركز علي الدعوة لوحدة القوي الوطنية والثورية، وتشتغل انتفاضة الخبز ويقبض عليه من جديد، ويواصل.. يواصل بلا ملل، حتي يرحل في حادث سيارة.