مناضلون يساريون مصطفي طيبة وجاء يوم كنت فيه أنا المتهم سجينا والمحامي الذي دافع عني سجينا والقاضي الذي حاكمني سجينا هو أيضا. مصطفي طيبة الأب يجاهد بحثا عن خبز لسبعة أبناء وزوجتين. والفقر حاجز أمام طموح التعليم، وممكنات الأب تقف به عند حدود الشهادة الابتدائية، أما ما بعد هذا فهو رفاهية لا يقدر عليها، لكن الفتي مصطفي يلح.. ويتنازل الأب فيدخله مدرسة الصنائع. وبعد الدبلوم يعين مصطفي في وظيفة إدارية في وزارة الحربية. لكنه يتطلع إلي المزيد فيلتحق في دراسة مسائية بمدرسة الفنون التطبيقية. وكعادة شباب هذه الأيام كان قلقا وراغبا في خدمة الوطن عبر أي سبيل فتنقل من الوفد إلي مصر الفتاة إلي الإخوان. وبالمصادفة وقعت في يده عدة كتب لسلامة موسي وأعداد من «المجلة الجديدة» وإلتهب ضوء مبهر في أعماق «مصطفي أفندي» واصل القراءة وواصل التجوال علي الأندية الثقافية التي تكاثرت في هذه الأيام.. تنقل بين ندوات «جماعة نشر الثقافة الحديثة» حيث استمع إلي محاضرات لمصطفي كامل منيب وسعيد خيال وابراهيم سعد الدين. و«دار الابحاث العلمية» حيث أنصت إلي شهدي عطية وعبد المعبود الجبيلي وعبد الرحمن الناصر ولطيفة الزيات و«نادي أم درمان» حيث يرتل محمد خليل قاسم وزكي مراد أشعارهما وحيث يخطب عبده دهب منددا بالشعار السائد «نيل واحد، شعب واحد، ملك واحد» ويرفع عاليا الشعار البديل «الكفاح المشترك ضد العدو المشترك.. وتلتقطه من هناك عيون يقظة تقوده إلي «الحركة المصرية للتحرر الوطني»، ويتلقي توجيها من مسئوله بالعمل النشط وسط خريجي الفنون التطبيقية فهناك حركة نشطة تطالب بأن يمنحوا لقب مساعد مهندس ثم لقب مهندس بعد فترة، وبزيادة الرواتب وعبر نشاط جارف قام به هو ومجموعة حزبية منها يوسف بدير محمد علي وبمسئولية سيد سليمان رفاعي، أمكن تأسيس «رابطة خريجي الفنون التطبيقية»، ويقود مصطفي إضرابا ناجحا وإعتصامات عديدة في مقر الرابطة، وتخضع الحكومة ويصبح مساعد مهندس. لكن هذا النجاح لا يمر بلا اهتمام من القيادة. فقد تم تصعيده إلي لجنة القاهرة ثم دعاه هنري كورييل ليحضر اجتماعا للجنة المركزية يقدم فيه تقريرا عن خبرات تأسيس الرابطة وتنظيم الإضراب والاعتصام، كان قلبه يدق فهو في حضرة القادة وكان القادة ينصتون في انبهار وبعدها أصبح مسئولا عن لجنة المعز (القاهرة) وانغمس حتي أذنيه في النضال الثوري. وفي 1948 كان قد أصبح كادراً أساسياً في منظمة حدتو. ثم بدأت المشكلات. حرب فلسطين- حملة الاعتقالات - الانقسامات ، وفي هذه الأثناء تم تصعيده إلي اللجنة المركزية، وفي هذا المناخ الملئ بالانقسامات والتربص بكل قول، والانفعال المرتدي ثيابا ثورية أعد الرفيق شكري (مصطفي طيبة) تقريراً نادي فيه بضررة أن ينفتح الحزب ليس فقط علي العمال والفلاحين والطلاب والفقراء وإنما أن يفتح ذراعيه للمهنيين وكل القوي الوطنية والديمقراطية في المجتمع. وأطلق علي هذا التقرير اسما هو «خط القوات الوطنية والديمقراطية» ونستمع إلي الرفيق شكري «هذا التقرير نسخ منه عدد محدود ووزع بالكاد علي المتبقين من عضوية اللجنة المركزية. لكن المناخ كان معصوب العينين والعقل كان متجها نحو الخصومة، وجري تهييج للكادر ضد تقريري. وفجأة أصبحت عدواً لغالبية من كادر تحركه نزعات برجوازية صغيرة تحركها شعارات متطرفة ومتشددة، والمثير للدهشة أن الذين أدانوا التقرير لم يقرأوه فقط سمعوا عنه من خصوم للفكرة وفي مواجهة التقرير نشأت الدعوة لنقاء الحزب البروليتاري من أي وجود غير عمال ورفع شعار.. 100% عمال (منظمة م.ش.م والبعض تواضع فرفع شعار 75% عمال (منظمة العمالية الثورية) ومن المعتقل يتلقي رسالة من هنري كورييل تطلب إليه أن يترك وظيفته ويحترف في العمل الحزبي. لكن ما يراه من صخب غير عاقل وخلافات غير مبررة وانقسامات لا تعرف العقل ولا التروي كل ذلك جعله يرفض أن يضع مصيره في أيدي هؤلاء . ويغضب رفاقه في المعتقل ويقررون تنزيله من عضوية اللجنة المركزية، ويجد الرفيق شكري نفسه بين فكي كسارة البندق فالذين رفضوا تقريره اتهموه بالخيانة والذين قبلوه إتهموه بالضعف. وانعزل شكري مع مجموعة صغيرة تمتلك كنزا حقيقيا هو «مطبعة» وسميت المجموعة «مجموعة المطبعة». ويعود إلي مصر، من فرنسا، في هذه الأثناء شاب حصل علي الدكتوراه وأصبح مدرسا بالجامعة هو د. فؤاد مرسي. قابله شكري وطلب د. فؤاد أن ينضم إلي حدتو لكن شكري قال له : أنا شخصيا تركت حدتو. وجلس الدكتور مع مجموعة المطبعة: مصطفي طيبة - سعد زهران- داود عزب- لمعي يوسف- طوسون كيرلس. وانبهر الجميع بحماس وقدرات الوافد الجديد. وأعد فؤاد مرسي تقريرين مهمين إنبهر بهما كل من قرأهما «الصراع الطبقي في مصر» و«ثورتنا المقبلة». ويمضي شكري قائلا «تصورت وكذلك الدكتور فؤاد أن كل ماركسي سيقرأ هذين التقريرين سوف ينضم إلينا حتما. وكان ذلك صحيحا إلي حد ما. وفي أول يناير 1950 أعلنا قيام الحزب الشيوعي المصري، وأصبح فؤاد مرسي سكرتيرا عاما وأنا مسئولا للتنظيم وداود عزيز مسئولا للدعاية، وسعد زهران معنا في القيادة الرباعية، ونجحنا في إصدار مطبوعات أنيقة جداً ومنتظمه تماما فمجلة راية الشعب كانت تصدر كل خميس وبانتظام مثير للدهشة»، ويقبض علي الرفيق شكري ومعه مصطفي كمال خليل ومعهما المطبعة، في 18 يوليو 1952، وبعدها بأيام تأتي ثورة يوليو. ومحاكمة عسكرية أمام مجلس عسكري عال يرأسه قائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن، وترافع عنه المحامي الوفدي الشهير محمود سليمان غنام الذي هاجم الحكم العسكري هجوما عنيفا وبعد شهرين اوقفت المحاكم فقد قبض علي القاضي بتهمة تدبير انقلاب عسكري جديد وقبض علي المحامي بتهمة العداء للثورة وأتي قاضي جديد هو اللواء فؤاد الدجوي ليحكم عليه بالسجن عشرة سنوات أشغال شاقة.. ويبقي مصطفي طيبة مسجونا حتي بعد أن ينهي فترة العقوبة ولا يفرج عنه إلا في ابريل 1964 مع باقي المسجونين، ويعمل مصطفي طيبة بقرار من خالد محيي الدين صحفيا في دار أخبار اليوم عندما كان رئيسا لمجلس إدارتها: ويكتب الرفيق شكري ما يشبه المذكرات في جزئين «رسائل سجين سياسي إلي حبيبته»، وفي الحوار الممتد معه لساعات وأيام (مايو- يونيو 1968) حكي آلاما كثيرة ورجاني إلا أدونها: ظلم الرفاق له- أبوه الذي قضي أيامه الأخيرة في ملجأ العجزة حيث أفقر الفقراء، أخته التي ظلت مصابة بانهيار عصبي منذ القبض عليه وحتي نهاية الحياة. زوجته الايطالية التي ما أن علمت بالقبض عليه حتي أجهضت ابنه وطلقته. وتبدت دموعه وهو يقول لو كان ابني حيا لكان قد أصبح شابا». وقال «كنت متماسكا رافعا هامتي أمام خصومي الطبقيين لأكن قدوة لزملائي لكنني كنت أتمزق لإحساسي أنني عذبت أبي وأختي». وتمضي الأيام ليرحل الرفيق شكري حاملا أحزانه في صدره الذي كان باتساع حلم الوطن بأسره.