أدركت منذ دخولي إلي هذا المكان كم كان العالم المستشرق وليم لين لديه كل الحق في انبهاره بمصر وعلي وجه التحديد «الموالد في مصر» حتي يكتب كتابا كاملا يروي فيه تفاصيل هذه الموالد التي شغف بها حبا وبأصحابها. وعلي باب السيدة، أم العواجز، رئيسة الديوان، ألقاب كثيرة أطلقها المصريون عليها، عالم خاص جدا يحيط بالضريح يتعلق بحياة هؤلاء البسطاء من جاءوا آملين في شفاء الابن أو الابنة وفك نحس تلك الأيام علي أعتابها، المقام يحمل معه يقينا تاما داخل صدورهم، يمتزج بإيمان فيضع لهم خطة سحرية للتحايل علي الحياة، ميدان شهير يمتلئ بالباعة من كل مكان والزوار والمريدين من أقصي صعيد مصر شمالا وجنوبا، تفاصيل البهجة تنتشر وأنوار بعيدة وقريبة تضاء ليمتلئ حي السيدة زينب بأكمله بالبشر شوارع وحواري وأزقة افترشها هؤلاء ليجاوروا «أم هاشم» في يوم مولدها، ابتسامات علي الوجه، ورضا علي وجوه أخري، ترحاب حار لكل من يقترب ممن يجلسون ليقدموا لك الطعام والشراب «بركة السيدة زينب»، مشاهد كثيرة قد نملأ بها أشرطة عديدة من السينما، تفاصيل راهن عليها الرائع يحيي حقي في «قنديل أم هاشم» ذلك القنديل الذي تعلقت به قلوب بعيدة في أقصي البلاد وقلوب أخري قبلت القرب منه لتضع حياة أشبه بسيمفونية دافئة. قد يجعلك مولد السيدة زينب في حالة من النشوي لا تفسدها محاولا تفسيرها، حتي أنك ترفض تسجيل ما يحدث بورقة وقلم وتفضل الاستماع والمشاهدة لتحتفظ الذاكرة به يمتلكك وحيها أثناء الكتابة. ميدان السيدة زينب منذ الجمعة الماضية يمتلئ عن آخره، بائعون لكل شيء، طرق صوفية مختلفة «الرفاعية، البراهمية، الأحمدية، الشاذلية»، زوار للمقام كثيرون رجالا ونساء سرادقات لتقديم الأطعمة والمشروبات، وسيدات يجلسن في الأرض لصب المياه المختلطة بماء الورد لكل من يمر عليهم وسيدة أخري تقف أمام باب الضريح ترتدي ملابس خضراء فضفاضة أشبه بملابس البدو وتحمل علي كتفها «إربة» وبيدها أكواب فضية لتصب أيضا المياه وعليك أيها الساقي «أن تراضيها»، مجاذيب وبائعون وبائعات للطواقي الشبيكة والملابس الرجالي. للحلوي مكان كبير أيضا داخل المولد من الحمص والسمسمية والفول السوداني وغيرها، الحاجة سعاد تأتي من المنيا لحضور المولد هي وابنها وتنام في أحد الشوارع المجاورية معلنة أنها في «حِمي السيدة». وها هو الحاج وحيد صاحب أحد محال الشنط يفتح دكانه ليضع طعاما وأواني متسعة يضع داخلها الفول النابت ويوزعه علي محبي السيدة زينب، وليلا يضع لهم القرفة والشاي، وكلما بدأ الليل في التسرب إلي المكان زاد ازدحامه وعلت الأنوار وتفننت المحال في تقديم أحسن ما لديها لإغراء الزائرين والضيوف في ميدان السيدة زينب. أصوات التواشيح العالية لا تنقطع إلا في لحظات الصلاة والبخور يعبئ المكان عن آخره، حالة روحانية جدا تلك التي يعيشها حي السيدة في هذه الأيام، وحينما تقترب من إحدي القهاوي التي سايرت الحالة ونصب سرادق مجاور لها تجمع فيه عدد من الرجال المحبي للموسيقي الصعيدي وعلي نغمات المزمار والطبلة يرددون «يا آل البيت يا قمر الصعيد» يتراقص الرجال بالعصا وسط مشاهدة الجميع، لتمتلئ الكراسي عن آخرها ويقف كل من يمر عليهم لإلقاء نظرة لنتذكر الرقص الشعبي والبلدي الجاد جدا بالعصا بعدما نظن اختفاءه في زحمة الحياة وبعد الوصلة الساخنة من الرقص يحمل رجل آخر العصا ليقدم نفسه هو الآخر وحتي الساعات الأولي من الصباح يظل الجميع في حالة من المتعة، كل بطريقته، الطرق الصوفية في سرادقاتها تنشد التواشيح أو تقرأ بعض آيات القرآن وتردد فقط أول السور بشكل مستمر وهكذا «كل شيخ وله طريقة». بينما بعض الزائرين القاهريين - وما أقلهم - يوزعون النذور أو يكتفون بالمشاهدة لطقوس المولد، في كل الحالات من يمر من السيدة زينب لا يمر مرور الكرام وتستوقفه حالة تطبع علي روحه بهجة وتساؤلات تحمل علامات استفهام «هو احنا سنة كام؟».. مهما كان رصدها بعين المتأمل أو الرائي أو المحب أو العاشق أو المريد أو الطامح.. فمجرد الرصد سيؤدي بك إلي «مصر الحلوة جدا».