مناضلون يساريون زگي مراد (1) «الفارق بيننا في الحركة المصرية للتحرر الوطني وبين رفاق «ايسكرا» أننا كنا نناقش أي موضوع سريعا ونصل إلي قرار ثم نبدأ في العمل، أما رفاق ايسكرا فكانوا يستمتعون بالنقاش، يتكلمون جميعا وطويلا جدا ويستهلكون جلسة أو اثنتين أو أكثر دون أن نصل إلي اتفاق». زكي مراد (في حوار معه أجريته في 25/11/1974) تحدثنا عن نوبيين فقراء، كل النوبيين كانوا فقراء، وعمدة الفقراء هو أيضا فقير، سموه زكي العمدة لأن والده كان عمدة أبريم، والعمدة في القرية النوبية هو محور الحياة، فالرجال يسعون شمالا نحو الرزق ليعملوا في القاهرة بوابين أو سفرجية ويبقي العمدة لينظم حياة كل سكان القرية من نساء وأطفال وعجائز، هو البديل عن جميع الغائبين، والمنصب المهيب يضفي ظلاله علي جميع الأسرة، الأب هو محمد العمدة والأم فاطمة العمدة والابنان فوزي العمدة وزكي العمدة. هكذا كان الأمر والأطفال يلعبون معا في حواري «أبريم» أو بين تلاميذ مدرسة عنيبة الابتدائية، والنوبيون مكتوب عليهم أن يبنوا بيوتهم ويزرعوا نخيلهم ثم يتركوا كل شيء كي يغرق، هكذا يدفعون ضريبة الوطن، يدفعونها رغم أن الحكومات المتتالية أنكرت تضحياتهم ولم تترك لهم سوي العمل بوابين وسفرجية، غرقت بيوتهم ونخيلهم والتعويض هزيل.. هزيل، يقول زكي بحماس «تصور تعويض النخلة المثمرة كان 15 مليما، وعندما قال أحد أعضاء مجلس الشيوخ حرام هذا تعويض هزيل رد عليه إسماعيل صدقي «إذا اغتنوا مين حيشتغل عندنا بوابين وخدامين» بمثل هذا الاستخفاف الطبقي المرير حمل النوبيون ما تبقي من حطامهم وانتقلوا.. ويشدو زكي مراد حزينا.. لنفترق لنفترق يا بيت والدي العزيز يا قمرة الصبا يا سكرة الحياة في ربيعها المبكر الطليق يا لمحة الطفولة الجميلة البريق لنفترق يا نيل، يا نخيل، يا أصيل قريتي الوردي الجميل يا قلعي الصغير، يا فلوكتي يا شمعة تضيء في جزيرتي وفي عام 1939 يحصل زكي علي الابتدائية ويرحل شمالا يركب القطار للمرة الأولي في حياته ويلتحق بمدرسة حلوان الثانوية، ولمدرسة حلوان قصة في تاريخ اليسار فهي المدرسة الأميرية الوحيدة بالقاهرة التي تضم قسما داخليا وفيها احتشد طلاب من مختلف الأقطار نوبيون من جنوب مصر ومن شمال السودان وسودانيون شماليون وجنوبيون، يمنيون، حضارمة، صوماليون تونسيون وبين هؤلاء جميعا أنبت اليسار المصري زهورا أينعت في عديد من الأقطار، ووسط هؤلاء جميعا عاش زكي مراد وغني أشعارا تمتلئ حنينا للنوبة ومحبة للوطن، ويحصل زكي علي الثانوية العامة.. وإلي الجامعة، وينتقل إلي غرفة في أعلي سطح منزل متهالك في حي الفوالة حيث يتراكم النوبيون، الغرفة ضيقة لكن الفقر يجبره علي مشاركة زميل فيها، وكان زميل صباه ودراسته في مدرسة عنيبة الابتدائية محمد خليل قاسم، تقاسما الغرفة الضيقة، المضاءة بلمبة جاز شحيحة وتقاسما اللقمة وتطارحا الشعر وجلسا معا في أحد المقاهي حيث التقطهما عبده دهب وضمهما معا إلي الحركة المصرية للتحرر الوطني، وينشط الاثنان في حماس غامر بين الشباب النوبي في المقاهي وفي الأندية النوبية والنادي النوبي العام.. الذي تحول علي يديهما من مجرد دور للأفراح والتعازي والثرثرة إلي أندية حية تنبض بندوات ومحاضرات وفصول محو أمية وجلسات صاخبة، وينهض القسم النوبي في «ح. م» ليصبح أحد أعمدة التنظيم، ويتمدد النشاط إلي الطلبة السودانيين ليشمل أسماء لمعت بعد ذلك في سماء السودان، عبدالخالق محجوب، عبدالماجد أبوحسبو، محمد أمين شاكر مرسال، التيجاني الطيب، وعشرات غيرهم كانوا عماد الحركة السودانية للتحرر الوطني «الحزب الشيوعي السوداني». ويسهم زكي في تأسيس مجلة أم درمان «مجلة الكفاح المشترك» ويكون له ولزملائه فضل واجهة الشعار السائد آنذاك نيل واحد - شعب واحد - ملك واحد، وتبني شعار الكفاح المشترك ضد الاستعمار وحق تقرير المصير للشعب السوداني. وعلي صفحات «أم درمان» يشدو زكي مراد شعرا.. بيني وبينكم الدم فتحكموا ما شئتموا إني غدا متحكم .. وتغلق أم درمان.. ضمن حملة الطاغية صدقي يوليو 1946 ولم تزل رحلة زكي مراد ممتدة فلنواصل الحديث عنها.