أول بلكونة صفاء عبد المنعم هكذا ظهرت أمامى فجأة! ظهرت أمامى فجأة، بسنتيها الأماميتين البارزتين عن شفتها العليا، مما يتيحا لوجهها قبحا معينا لا يزول إلا عندما تضحك، ويظهر فكها العلوى كاملا، فتبدو سنتيها البارزتين فى أناقة غير معهودة، وجمال مع الضحكة المشرقة، وتورد خديها اللذان، لمحت فيهما بعض الأحمرار من بودرة الخدود الواضحة. وقالت فى أستغراب ودهشة مفرطة، وبأستغراب أزال عنى بعض الخجل وأنا أمعن النظر فى وجهها، والذى كنتُ عندما أراه فى السابق اشعر بالأمتعاض، ولكنه الأن فتح لى بابا من الأسئلة الكثيرة، وهى تقترب منى فاردة ذراعيها، وفى يدها اليسرى قلم جاف أزرق. – فينك يا حاجة؟ عاش من شافك. أربعة أشهر، لا حس ولا خبر. دهشت أكثر، وتسمرت فى مكانى، فأنا لم أعتاد على هذا الكلام منها من قبل. تركتنى واقفة، غارقة فى ذهولى. ثم توجهت نحو الرجل الواقف عند باب المحل، ويحمل على كتفه نصف عجل بتلو، فذهبت نحوه فارتة ذراعيها كى تساعده على رفع حمله الثقيل على المشجب الحديد المعلق أمام الباب. وعندما عرفت أن ذراعيها الممدودتين كانتا ليست لأستقبالى كما توهمت فى البداية، وكما أعتقدت من صوتها الودود، جلست على أقرب كرسى صادفنى بجوار الباب من الداخل، وأنا أتطلع بعينيى الكليلتين نحو الذبائح الطازجة والمعلقة أمامى فى المحل. ثم توجهت نحوى بحديثها ثانية. – أأمرينى يا حاجة أى خدمة. فى هذه المرة لم أوجه حديثى لها مباشرة، ولكننى وجهته إلى الرجل العجوز الواقف أمام الميزان، وطلبتُ منه مباشرة : نصف كيلو كبده أسكندرانى، وموزة بتلو، ونصف كيلو بفتيك. وجلستُ فى أنتظار تجهيز الطلب، وأنا أنظر فى الحقيبة التى معى، وأخرج الفلوس منها. بعد ذلك سمعت صوت الجزار العجوز، وهو يحدثها فى تراخى وتعب شديد. – أكتبى عندك طلابات الحاجة. نظرت نحوها بعينين فاحصتين ومازلت غير مستوعبة التغير الكبير الذى حدث بعد أخر مرة كنتُ فيها هنا.رأيتها تمسك بورقة صغيرة وتكتب ما طلبته بدقة منذ دقائق، وتمد يدها لى بالورقة. وفى يدها الأخرى تمسك بكوب شاى كبير، وتقدمه نحو الجزار العجوز الواقف بجوار الميزان. جلستُ على الكرسى فى حالة أسترخاء وتعجب شديد، وأنا أحاول جمع شتات افكارى، متى رأيت هذا الوجه فى هذا المحل، وكانت على غير ذلك؟ أخذتُ أعصر فى ذاكرتى الضعيفة عصرا شديدا، حتى تذكرتُ أول مرة رأيتها فى هذا المحل منذ ما يقرب من الأربعة اشهر تقريبا. كانت ترتدى عباية سوداء، وإيشارب أسود، وتقوم بكسح الماء من المحل إلى الشارع، ها نعم لقد تذكرتُ الآن، كان وجهها عابسا، وحاجبيها غير نظيفين، وملابسها رثة بعض الشئ، وكانت تقوم بتنظيف أرضية المحل بعد دلق الكثير من الصابون والكلور على الأرض، الآن تذكرتُ بقوة، ويومها أستغربتُ كثيرا، كيف لامرأة شابة(حقيقى أنها غير جميلة وملابسها غير نظيفة) أن تقف وسط ما لا يقل عن العشرة رجال داخل محل ضيق كهذا؟ والرجال والصبية فى حركة مكوكية دائمة، لدرجة أنهم يحتون ببعض عند الدخول والخروج، وإذا قرر ذبون من الذبائن الجلوس على أحدى الكراسى مثلما فعلت الآن، كانوا يشوطون أقدام الزبائن الجالسين دون قصد منهم، ودون عذر واضح، غير أن المساحة فى أرضية المحل ضيقة جدا، والمحل مكتظ بالزبائن. كنا فى بداية شهر مارس تقريبا، وحضرتُ إلى المحل كى أأخذ طلابات البيت لشهر كامل من اللحوم، ووجدتها واقفة أمامى تزيح الماء القذر عن الأرض. جلستُ فى حالة من الصمت والتعجب، فى أنتظار تجهز الطلب الخاص بى، وأنا مازلتُ شاردة بعض الشئ. ثمة لحظات فى الحياة لا ندركها بشكل كلى أو كامل، ولكن ربما بكثير أو بقليل من الوعى نحاول أن ندخل مدخلا مختلفا، لكى نقبض على ما يحيط بنا فى محاولة يأسة. بعد لحظات من الصمت، أعتقد أنها طالت كثيرا، رأيتها تحمل الكيس الخاص بى وتعطينى أياه وهى تبتسم أبسامتها العريضة التى رأيتها للأول مرة عند دخولى المحل. – أتفضلى يا حاجة بألف هنا وشفا. مددت يدى لها فى تحفظ، وأأنا أأخذ الكيس من يدها، وأقوم واقفة، وأعطيها البون الخاص بالطلبات، وبداخله وضعت عشرة جنيهات كاملة. نظرت داخل البون ، فلمحت العشرة جنيهات، أبتسمت أبتسامة أكبر وهى تقول مودعة لى. – مع السلامة يا حاجة. خرجتُ من المحل، وأنا مازلتُ مندهشة مما حدث، ولم أجد تفسيرا مقنعا لهذا التغير الكبير..