انتهت الجولة الثانية من انتخابات رئاسة الجمهورية فى فرنسا بين « إيمانويل ماكرون « الذي كون حزبا جديدا أو حركة تحمل اسم « إلى الأمام « وتضم شخصيات غير معروفة من السياسيين، و» مارسين لوبان « زعيمة حزب « الجبهة الوطنية « اليمينية المتطرفة، إلى « فوز « ماكرون» بنسبة كبيرة حيث حصل على نسبة 9ر65% من بين الذين أدلوا بأصواتهم، بينما حصلت « لوبان « على نسبة 1ر34% وتميزت هذه الانتخابات بانخفاض نسبة المشاركين فى التصويت أو لم يضعوا أي أوراق فى الملف الانتخابي بعد أن قاطع الانتخابات 25% من الناخبين المسجلين (47 مليون ناخب )، لترتفع النسبة إلى أكثر من الثلث بعد إضافة الذين أبطلوا أصواتهم، بينما كانت نسب المشاركة فى انتخابات 2007 (77ر83%) والنسبة فى انتخابات 2012 (48ر79%). وجرى التركيز على دلالة هذه النتائج على علاقات فرنسا الخارجية والموقف من الاتحاد الأوربي، والعلاقات مع الولاياتالمتحدةوروسيا. فكما قالت وكالة الانباء الفرنسية.. كان إزدراء لوبان لأوربا واضحا، بل توقعت أن يزول « الاتحاد الأوربي « وتعهدت بتنظيم استفتاء حول خروج فرنسا من التكتل الأوربي، فيما يعرف ب « فريكست « كما أنها تطالب منذ زمن بعودة فرنسا إلى الفرنك وتخليها عن العملة الموحدة « اليورو « وأيضا بالخروج من فضاء شينجن، ورحبت لوبان بقرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوربي وقالت إنه عمل « لاستعادة التحكم بالمصير « بينما يتمسك «ماكرون» بالاتحاد الأوربي ويطالب بإصلاحه وتقويته، وأيد تخصيص موازنة منفصلة لمنطقة اليورو التي تضم 19 دولة، وأن يكون لها أيضا وزير للمالية وبرلمان. وأعلنت «مارين لوبين» ضرورة تخليص فرنسا من التبعية للولايات المتحدةالأمريكية، وتطلعها إلى الغاء الاتفاقية التجارية مع الولاياتالمتحدة المعروفة باسم اتفاقية التبادل الحر عبر الاطلسي « تافتا» : ورفضها أي عقوبات أمريكية أوربية تفرض على موسكو. فى حين يقف « إيمانويل ماكرون « مؤيدا لاستمرار هذه الاتفاقية، ويعارض رفع العقوبات عن روسيا من جانب واحد، ويرى ضرورة إتخاذ موقف حاسم ضد استخدام روسيا حق النقض « الفيتو « المتكرر فى مجلس الأمن فيما يتعلق بالأزمة السورية، ويشدد على ضرورة رحيل الرئيس السوري « بشار الأسد « الذي تدعمه روسيا. إلا أن الدلالات الأهم هي المتعلقة بالأوضاع الفرنسية الداخلية وما قد تسفر عنه الانتخابات النيابية فى شهر يوليو القادم. لقد كشفت انتخابات الإعادة للرئاسة الفرنسية عن إزاحة الحزبين الرئيسيين اللذين ظلا يتداولان السلطة فى فرنسا منذ أكثر من نصف قرن، أي منذ إرساء الجمهورية الخامسة فى عام 1958 على يد « الجنرال شارل ديجول « وهما حزب اليسار « الحزب الاشتراكي « وحزب اليمين « حزب الجمهوريين «.. وبالتالي انهيار قاعدة تداول السلطة فى فرنسا بين اليمين المعتدل واليسار الاشتراكي والتي استمرت 36 عاما منذ انتخابات « فاليري جيسكارديستان» عام 1974 كمرشح وسطي لاينتمي بوضوح لليمين أو اليسار وتناوب على الرئاسة بعده رؤساء من اليسار الاشتراكي مثل « فرانسوا ميتران « و» فرانسوا هولاند «. وفى دراسة لعدد من مراكز البحوث والدراسات الفرنسية، تأكيد على تراجع الإيديولوجية باعتبارها القيمة الأساسية التي كانت تدفع الناخب الفرنسي عادة لاختيار مرشحه، وهذا التراجع يعكس شعورا عميقا لدى الناخب عامة بفقدان الثقة فى الأحزاب التي كانت تتولى الحكم تقليديا، مما ينبيء بحراك اجتماعي مستقبلي قائم على الطبقية والفروق الثقافية، ومن شأن هذا الحراك فى مجتمع تعددي وثري ثقافيا، تعميق الدراسات السوسيولوجية، وتكثيف المراجعات الفكرية لدى الأحزاب التقليدية، وبالتالي يؤشر إلى صعود وجوه جديدة وتغيرات جذرية فى هياكل الأحزاب الداخلية. وتمضى الدراسة لتتناول تصويت الكتل الانتخابية كما اتضحت فى انتخابات الرئاسة عن طريق عينات منتقاة، فتكشف عن ميل الكوادر وأصحاب المهن الإدارية لانتخاب « ماكرون « فى حين فضلت الطبقات العمالية وأصحاب المهن المتوسطة « لوبان «. وتوافقا مع هذا الاتجاه صوتت أيضا الكتلة الأكبر من أصحاب الدخول المرتفعة ( بمتوسط دخل 3000 يورو شهريا أو أكثر ) لصالح ماكرون، فى حين صوتت الكتلة الأكبر من أصحاب الدخول المنخفضة ( متوسط دخل 1250 يورو شهريا أو أقل) لصالح لوبان. وبالنسبة للجانب الثقافى طبقا للدراسة فقد جاء متوافقا مع العوامل الطبقية، حيث صوتت الكتلة الأكبر من الحاصلين على المؤهلات العليا ( المؤهلات الجامعية وفيما أعلى) لصالح « ماكرون» بينما صوتت الكتلة الأكبر من الحاصلين على المؤهلات الأدنى لصالح « لوبان». ويمكن أن نضيف أن المدن الكبرى صوتت لصالح «ماكرون» بينما صوت الريف لصالح « لوبان». ولاشك أن هذه العوامل كلها ستؤثر فى الانتخابات النيابية فى الشهر القادم، ولكن المؤكد أن الأحزاب السياسية التقليدية والجديدة ستشكل المجلس النيابي القادم، وقد يضطر « ماكرون» للتعايش مع الحزب أو التحالف الحاصل على الأغلبية والذي سيشكل الحكومة الجديدة.