إلى كل الذين دافعوا عن أرض الوطن ... واستشهدوا. هكذا تسطر أسرة فيلم ( أغنية على الممر ) إهداءها وتستهل بها الفيلم. لا أدري لماذا شرد ذهني وأنا أعود إلى بيتي فى ليل 6 أكتوبر 2016 ! نعم هذا العام. صوت أنور السادات الفخيم وإيقاعه المتمهل الواثق يجلجل بالنصر وبإنجاز قواته المسلحة. لكني عرفت عندما انسابت دموع لا إرادية وأنا أقول لصديقتي فكرت فى الشباب والكهول الذين يتساقطون الآن فرادى وجماعات فى حرب فقدت جلالها، لها عنوان فضفاض شيمته الغدر وظهيرها مشوش. حرب أُريد لها أن تفقد عدوها الواضح المبين، وما كنا نصفه بالتاريخي. أكتوبر 2016 مازال ينزف حتى كتابة هذه السطور. كم يمقت العدو الفضفاض شهر الانتصار. فيلم ( أغنية على الممر ) الذي أنتجته جماعة السينما الجديدة بالتشارك مع المؤسسة المصرية العامة للسينما عام 1972م، وأخرجه على عبد الخالق، هو خندقي وملاذي عند كل فقد جلل على أرض المعركة الجديدة اليوم. لم نكن قد انتصرنا بعد. لكن " الأغنية " أشاعت روح الصمود الصعب والتحدي. الفيلم ببساطته الجمالية وبلاغته الكثيفة وتواضع إنتاجه ينفى عن مادته أي ادعاء. هو لا يدعي الإحاطة بكل الحرب لكنها سارية مشاة فى نقطة الدفاع عن ممر، ليس كل السارية المكونة من ثلاثين جندياً لكن خمسة ممن تبقوا، لا يبقى منهم إلا اثنان تكاد تنعدم فرص نجاتهما. والموعد 7 يونيو عام 1967. يوم بليلة لا أكثر. يضعفون أمام الذكرى والأمل والعطش والموت. تتيح الخلفية الرملية الصحراوية للوجوه السمراء المتعرقة أن تتجلى منحوتة بحضور أخاذ. تلعب اللقطة القريبة والقريبة جداً دوراً حميماً فى تفحص ومحاولة استكناه حقيقة خمسة رجال بين موت وموت ! يحوم طائر الموت تدريجيا فوق رءوسهم ( فعلياً بتحليق طائرات العدو فى مرحلة متأخرة من الفيلم ). يبدأ بانقطاع الاتصال بعطل فى جهاز اللاسلكي، وبالتشكك التدريجي فى وصول أي إمداد أو تعيين، ثم بتغول دبابات العدو على الموقع والمطالبة بالاستسلام بعد تقهقر وانسحاب القوات المصرية. فيلم لا يدَّعي لكنه يمتلك شجاعة نبيلة فى الطرح الفني والمواجهة الفكرية فى لحظة حاسمة وثقيلة من تاريخ مصر. رؤيته القتالية ترتكن فى عمقها الاجتماعي إلى الريف المصري حيث الفأس الذي يتقدم مشهد استدعاء الفلاح قائد الكتيبة/ محمود مرسي عام 1956، كأنه يترك سلاحه العزيز إلى آخر يُفترض ألا يكون أقل عزما أو قوة، ويترك أرضه الخاصة المحدودة لأرضه الأم. رؤية ترتكن إلى طاقة عمال عفية محبة للحياة تتمثل جزئياً فى نموذج الفتى النجار/صلاح السعدني القادم من دمياط صانع بيوت العرايس، ومن غيره بقادر على الحب فى بيئة حاضنة للنيل الطيب ومن فضل خيره. يلهي زملاءه عن قلق الخطر والمصير بدعابته المتكررة : " الواحد يوم الدخلة ياكل ايه ؟ " ! ربما يلهي نفسه أيضاً. من المفارقات الدرامية المبهرة فى هذا الفيلم شديد العذوبة عن الحرب والتي تليق بما يمكن أن يكشف عنه الإنسان فى لحظة استثنائية كتلك أن الفتى الأكثر استقراراً فى عمله وحبه، التواق للقاء حبيبة عمره المنتظرة بتلهف يصبح هو المتطوع الوحيد باقتراح القنبلة التي تخرس صوت العدو الإسرائيلي ودبابته. يلقى الضحوك حتفه بجدية، منتشياً بلحظة نصره النارية. وتأتي الأغنية التي يلحنها حمدي/أحمد مرعي: "وتعيشي يا ضحكة مصر " من دقات الفواعلية والبنايين وغُناهم، من إيقاعهم وصمودهم الآمل، حتى أنه لحظة استشهاده تتردد أغنيته على خلفية من ساقية ونيل والبنائين المُلهِمين يرددون أغنيته. أما المدينة العاصمة فتبدو طاردة بفنها الرخيص وفكرها الرجعي المتعالي وأخلاقها الطفيلية المتسلقة. تنمو وشائج قربى بين حمدي الموسيقي وشوقي/ محمود ياسين الطالب المثقف كاتب القصة الذي يحكم عليه بالفشل مجتمع أبوي رجعي بجميع أركانه فى البيت، فى الجامعة، فى العمل، حتى فى الحب. ومن عجب أن يتفوق بطلاً فى القنص على الجبهة كأنه ينبئ بعبد العاطي صائد الدبابات فى نصر أكتوبر 73. ينفلت من بين تلك الجبهة القوية المتناغمة منير/ صلاح قابيل بكل ضعفه، واهترائه الأخلاقي الذي تدعمه المدينة الخاوية، وخروجه عن السرب. حتى لحظة انفجاره فى لغم لا تخلو فى الصمت الطويل الذي أعقبها من إحساس عميق بالذنب _ ربما _ من رغبة فى الانتقام فجرتها محنته درامياً. بالتأكيد. توقفت كثيراً عند المرجعية الفكرية التي أسست لهذا الفيلم وحددت عناصر الصمود والمواجهة وصاغت مصداقيته. ماذا بقي منها وماذا تغير أو تمادى وماذا تحلل وما التحدي الجديد. ما المعادلة الآن لتظل الأغنية سارية والنصر وشيكا. " أبكي أنزف أموت ... وتعيشي يا ضحكة مصر "