سنوات وأنا أشاهد البرنامج الأمريكي so you think you can dance، وأرقب الإبداع المعاصر فى تخليق وتوالد تصميمات حركية راقصة تنتمي لأنواع مختلفة من الرقص. تتشكل خريطة زمانية ومكانية لتلك الأنواع التي نشأت فى عقود بل عصور متباينة وتعود أصولها إلى بلدان وثقافات شتى: من أمريكا وأوروبا، من أمريكا اللاتينية وأصولها وأفريقيا السوداء، من الهند و"بلاد الواء الواء" ! ما ينتمي لعلو القصور وما ينبع من فيض الشارع المبدع. وأعجب لما لا يرى المبدعون فى بلدي فى الرقص الشرقي ما يستحق التطوير والنظر فى وضعه على الخريطة الإبداعية العالمية خاصة أن يد المصمم لم تكن بعيدة عن تابلوهات الأوقات الذهبية لازدهاره. نكتفى بالنظر فى (روتانا كلاسيك) على ألبومات الرقص الشرقي لتحية كاريوكا، وسامية جمال، ونعيمة عاكف وغيرهن. تتيح المشاهدة المنزلية استمتاعاً آمناً بين طيات رماديات الأبيض والأسود، فى السر وربما الظلام، تفصلنا عنها عقود من الزمن وشاشة حاكمة، ولا بأس بشعور مخملي قديم. وأترقب مشاهدة فيلمي (غرام فى الكرنك) و(أجازة نص السنة) لفرقة رضا – والأخير لا تكاد تتصيده على أي قناة – لأتملى من تلك العين وكيف رأت الحركة المصرية المحتفلة بالحياة فى بقاع مصر وشكلت بها أجساد راقصيها. هل يصون أحدهم إرث فرقة رضا، هل ثمة إضافة للوهج الستيني. يقولون عن جولات خارج مصر ولا نكاد نلمح فى قاهرتنا شيئاً منها. لا يحتل التعامل الفني الجمالي مع الجسد المصري مركزاً للاهتمام يقاوم فظاظة وجرائم انتهاكه فى الشارع والذهن الشعبي السائد، وما يُعاد تصنيعه من شائه الفن التجاري. كانت لا تزال فريدة فهمي الجامعية ابنة المهندس تكافح حتى الثمانينيات بموشحات إبراهيم عبد المجيد وملابس فضفاضة موشاة، و'تصمم' تصميماً حركياً على جمالية وعذوبة الجسد الذي ضبطت إيقاعه على عمرها فى تقدمه. "عجباً لغزال". ولا أطيل عليكم لا تزال لفات محمود رضا المتعاقبة الطائرة فى الهواء تدير رأسي ! دخلت المستوى الأول من الأوبرا فى ختام الدورة الثالثة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي تعترينى حُمَّى. صممت على الحضور لأكثر من سبب. كان واحداً من الأسباب الأهم عرض (يا سِم). كنت قد سمعت عنه كثيراً، ولم أره، غير فوزه فى المهرجان القومي للمسرح بجائزة التصميم الحركي. ماذا سيفعل العرض بمادته الأولية من الرقص الشرقي فى هذا الزمان؟! من داخل هذا السحر الخاص بعالم الرقص الشرقي وفرط أنوثته، من عقر دار ثقافته المرتبطة بالإغراء والغواية ينطلق العرض مراوغاً مراوغة الفن الجميل أيضاً. تظهر المؤديات الثلاث، نغم صلاح عثمان وأماني عاطف وشيرين حجازي، فى رداء أحمر منساب بخامته الطيعة ويطول متسعاً. لكن المشهد بإضاءته الناحتة للحركة لايتركك تماماً لتلك الاستنامة للمتعة القديمة. فثمة مربعات ودوائر حادة ومتداخلة ومتزاحمة البياض تقض مضجع أو مقاعد المشاهدين، ويُستبدل لاعب الإيقاع وضابطه بامرأة جميلة بارعة هي صابرين الحسامي، فقد لا تأمن لاستئثارك بالطبلة بعد اليوم. هذا التحدي المكير الخافت الذي يتوارى خلف المقطع الأول من الرقص الجماعي المصمم من جماليات الرقص الشرقي المخملي والموزع بعين تشكيلية بميزان شيرين حجازي البصري يتقاطع فى نهايته مع الفاصل الوحيد فى العرض الذي يردد بعضاً جريئاً من التحرشات اللفظية التي تتلقاها الفتيات والسيدات فى عرض الطريق فى المحروسة. كان قد سبقه ملمح من ضجة الشارع العشوائية عندما سكنت الطبلة. يرددن القول بسخرية متحدية ومباغتة للمشاهد فى أنحاء المسرح ليعقب هذه المواجهة المتخيلة مقطع طويل من رقصة العصا التي تبدو للوهلة الأولى كأنها تنطلق من لعب الراقصة التقليدي بالعصا فى الرقص ‘البلدي'، فتتحول – بلؤم كيدي – إلى استيحاء بارع وباهر المهارة الأدائية من رقصة التحطيب الذكورية وفنون الحرب المصرية. يصبح الحضور الأنثوي أكثر استعداداً للدفاع بل التهديد بالنصر والتفوق غير متنازل عن طبيعته! مقولة فنية جمالية مرَّكبة يتداخل فيها فن الرقص المعاصر والإيقاع مع السياق الاجتماعي والثقافى الذي نعيشه، ناسجاً برهافة ومستدعيا المكونات التاريخية لفن الرقص المصري من الفرعوني والنوبي، والصعيدي والبحري، ساحباً لحظة معاصرة من استعماء المرأة بلفها الواحدة تلو الأخرى كموج أسود مغرق، ومشيراً فى ذات الوقت وفى أكثر من موقع من العرض إلى قبضة الإيقاع على الجسد. فليس دائماً ما يكون مصعداً للنشوة فأحياناً ما يكون ضاغطاً على أنحاء الجسد مسبباً ألماً جامحاً أو مفجراً جرحاً دفيناً. أبواب من الإمكانيات واحتمالات من التأويل فتحها هذا العرض. وينضم فى ختام المهرجان إلى مجموعة العروض فى المهرجان التي تعمل على التراث المحلي وتعيد اكتشافه وصياغته جمالياً، لكنها تضيف بوضعه فى سياق حوار آني ومتفاعل مع اللحظة الراهنة. ارتفع بنا هذا العرض لفرقة مستقلة حديثة فى الختام فوق انتقادات وملاحظات على المهرجان، وأذاقنا لحظة نشوة جمالية وتحول وجداني ذابت معها الحمَّى كأن لم تكن، وآزر فرحتنا بعودة المهرجان وما يمثله. وإذا كنتن تقلن :" يا سِم " بتحدٍ لمن لا يفقهون وجودكن الجمالى، فإننا نقول لكنَّ، وبنفس وعين طيبة مقدرة: يا عسل ...