لم يكن حرصنا على عودة المهرجان التجريبي في دورته الثالثة والعشرين محض مظهر من مظاهر الحنين أو النوستالجيا لأيام تكوننا الثقافي والفني، وسنوات الأمل والحب، وإن كنت لا أراه عيباً أن تحمل مثل هذه الطاقة الإيجابية لدورته هذه، وإنما كان الدافع الأكثر تجرداً ووعياً هو إبقاء مستمر لجذوة الابتكار والتجدد، ألا تنطفئ في المسرح المصري وعند الشباب خاصة. وألا ينكفئ الإبداع في مصر على ذاته، محدوداً بانغلاقه وجامداً بنرجسيته، ما كان له آثار شديدة السلبية فيما قبل إنشاء المهرجان. فقد رسَّخ المهرجان لاتساع أفق المشهد المسرحي وانفتاحه على ما تيسر من ثقافات الأرض. وفيما يتعلق بهذا الصدد وحتى منتصف ليالي عرض هذه الدورة فقد لوحظ اتجاهان. فإما أن يعتبر المبدع أن الثقافة المسرحية باتساع الأرض والتاريخ ملك له أينما كان ينهل من منابعها وتطورها، ينتقي ويمزج ويضيف، بما يخدم ويفسح من رؤيته الفكرية الجمالية، وإما أن يعمل على تطوير أو وصل ثقافته الوطنية العريقة بحاضر التحديات المسرحية الراهنة والذائقة المعاصرة، ونادراً ما يجتمعان . أظن أن عرض الافتتاح الصيني (عاصفة رعدية) مجال خصب ورحب للاستمتاع بتزاوج أساليب مسرحية وتطور اشتباكها في القرن العشرين ما بين المسرح الصيني التقليدي وأنماط أدائه، وتأثر وتأثير بريخت ومسرحه الملحمي به وعليه، وكذلك تأثر الكاتب المسرحي الصيني Yu Cao بالتراجيديا الغربية ونموذجها الحديث في القرن العشرين، وهو الكاتب الذي احتفت الفرقة بمئوية ميلاده في 2010م بتقديمها هذا النص. وعلى قدر ما يبدو من تناقض بعض هذه التوجهات إلا أنه يبقى محلاً للدراسة مدى ما حققه المخرج والدراماتورج Dalian Chen داليان شن من تناغم على مدى ساعتين في الإيقاع التمثيلي الصوتي والبصري مع المؤثرات الموسيقية الحية، وتمازج بين زهد بريختي ورمز لوني في الملابس يوازنه معاصرة في التصميم تحيط برداء صيني تراثي لزوجة الأب، وتناوب بين السرد المحايد والأداء العاطفي الجارف شكل سياسات إبعاد وتحجيم لمحتوى تراجيدي في طبيعته وتعسف مصائره . يتكاثف عنصر النقاء والرمز اللوني في خيوط النور المركزية في منتصف المسرح حيث تشتعل زوجة الأب بالحب المحرم في نهاية مونولوج عذاباتها، ويتحول لحظيًا كامل الرداء الأبيض التراثي الحريري الذي يرمز للشر إلى نار دموية تنبئ أنها لن تبقي ولن تذر. وفي مشهد آخر تصبح كأنها نقطة نورانية تنطوي على حكاية حب تبدو نقية بين عشيقها ابن الزوج ومخدومته، يود لو بنقاء الضوء أن ينجو من دنسه المكين، لكنها كانت عاطفة تخفي حرمانية أخرى أشد وطأة تكشفت وكأنها لعنة حلت بكل أفراد الأسرة، ليصبح هذا الضوء في لحظة أخرى خيطاً حاداً كسلك كهرباء عارٍ تلمسه الحبيبة عندما أدركت رباط الأخوة الذي يربطها به، وكما سبق ورأت في حلم، فتسقط مفارقةً الحياة . تشكيل فني معاصر، صيني عابر للثقافات، بكل عناصره الأدائية يشف عن طبقات ومراحل من التجريب والتناسج الثقافي المسرحي عبر الزمان والمكان. ربما يبقى تساؤل فلسفي – على استحياء – حول مرمى ومهمة العرض المسرحي في ظل نظريات ونماذج مسرحية بعضها متجادلة أو متعارضة. لكن يحجبه هذا التأمل الأخاذ كيف أن أداة التيقظ والانتباه قد تتحول إلى مبعث السحر المسرحي والانقياد الجمالي .