"نحن نسعد بدعوة الأم الغاضبة (فى المثل الشعبي) عندما تقول لولدها (روح ... ربنا يفرج عليك خلقه)..بمعنى أصح ... إننا بتوع الفرجة العلنية، وبركات دعوة الأم علينا حتى يتجمع الخلق لمشاهدة ما نقدمه علناً من فعل.. هو أقصى درجة من درجات النجاح". من يمكنه أن يصف حال "المسرحجية" المغضوب عليهم، ومنتهى أملهم على هذا النحو القالب للمعنى والمقصد رأساً على عقب غير سمير العصفورى ... المسرحجي الأحق بمملكة المسرح. أستمتع بقراءة ثلاثية العصفوري ذات الاسم الأكثر دلالاً وبغددة (المسرح وأنا)، وأُبيِّت النية للكتابة عنها أو ربما عن الجزء الأول بانتهائه، والمعنون (حكايات وذكريات). تتشكل الكتابة الموازية فى ذهني، وبيسر غير معهود، عن الأسلوب العصي على التصنيف المراوغ كمسرحه، والتعبيرات المنحوتة التي تخصه. يداخلني شعور مزدوج بالمتعة والسيطرة. يتحرك العصفوري ما بين السرد النثري، وسيناريو المشهد السينمائي، والرأي المؤسس على خبرة، ولعاً بالكولاج كالعهد به فى بعض تجليات مسرحه. ويمارس قلب المشهد وحدة تحوله كأنه على خشبة المسرح أيضاً. وأطرب لغمزاته الساخرة اللاذعة التي يذيل بها المقطع/المشهد/المقال وتساؤلاته الحائرة. تتردد فى مخيلتي أصداء مشاهد مسرحية زلزلتني يوماً وأبهجتني فناً بما يتيحه من لقطات وتفاصيل وشخصيات وتعليقات تفسر انحيازاته الفنية والنفسية ويوفر مصادر صوتية وبصرية لما رأيناه منعكساً على خشبة مسرحه. ألعب معه لعبة موزاييك إبداعه فأرى فى حدة انقلاب مزاج العرض فى (العسل عسل والبصل بصل) أو ( القاهرة 80) آلام رعب الانتقال من حال لحال طفلاً محمولاً فى الحرب العالمية الثانية، تطارده فرقعات مدوية وأضواء خاطفة فى ليل بهيم. وأتيقن مما لمسته من جرح محفور بكبرياء المنتصر فى أعماق البورسعيدي فى عدوان 56 لألمح بعض أثره – من بين نصوص الأرض – فى (الست هدى) لأحمد شوقي يوماً ما ! على هذا النحو الواثق المطمئن إلى حدسه أبتهج بلقائي بالعصفوري فى الخيال، وترحابه البادي بالبوح على أننا فى أول الزيارة. أغلقت الكتاب عند الصفحة 96 بحسم وقد غافلتني دموع ما كدت أحسها من فرط صفائها. دمرت الدموع – على رهافتها – خطة الكتابة الماثلة وزهو التكشف. غافلني العصفوري أيضاً، وعاجلني بانحراف عن مسار التلقي الذي اطمأننت له. كعادته المسرحية لا أمان له! فى ثلاث صفحات بالكاد يكتب عن المخرج المسرحي كمال يس. الهواء غير المنظور الذي ينفثه كمال يس ويسري فى الممثلين. ينفخ فى النص حياة وشخوصاً حية. لحظة الغواية فى عمر الصبي سمير العصفوري عام 1955 وكمال يس يخرج (الناس اللي تحت) لفرقة المسرح الحر. يراه سمير لأول مرة "منصوباً فى المشهد" يستصرخ الهواء ويستجلبه أمام وجهه ليصاعد من طاقة إبداعه وحيوية المشهد المسرحي. تتردد أنفاسه فى جنبات المسرح ليالي التدريب والتحضير الطويلة ويكون أول الغائبين عن خشبته. ألهذا يقول العصفوري فى مقدمة الكتاب : "الإخراج المسرحي فن زائل يولد ويموت مع بداية العرض المسرحي". يأخذنا العصفوري فى عجالة لأنفاس كمال يس الأخيرة. ربما مستوحيا طبيعته العجول كما رصدها فى جواره وتعلقه به. يرحل كمال ‘كريشندو' مستشعراً خفوت إبداعه. ربما لم يستزد نفساً، كما لم يقل قولته (السلام عليكم جميعاً) بانتهاء البروفة. ذلك أنه غادر المسرح الأكبر. بعيني العصفوري وقلمه يلخص جوهر العلاقة فى عنفوانها بين المخرج والمسرح، والمسرح والحياة والموت. فن حي يحيطه الفناء كل ليلة بانطفاء أصواته. تسجيله – إن وُجِد – ليس إلا ذكرى أو لمحة من لياليه. وصورته لايمكن أن تكون أصلاً. والطوافون بهذه الأنفاس المجلجلة المنتشية بالفرجة يبكون فناءها بكاء العشاق. لم نكن فى شبابنا نذهب لنرى (العسل عسل والبصل بصل) بمسرح الطليعة. كنا نغتوي بعسلها ونتواعد ونحلم. ما لا أذكر من الليالي. لم يكن عرضاً منفصلاً، ... وإنما نسجتَ حينها أحلامنا ومددت أطوالنا. أيها العصفوري أنت طرف أصيل فى غوايتنا. أذقتنا عسلاً أيام الجنة الهاربة ثم قضيناها بصلاً طويلاً.