فى مثل هذا الوقت من العام الماضي كنت أتأهب للسفر إلى موسكو. كان نور الشريف قد رحل قبل أيام. وطوال عام أو أكثر تراوحت بين امتثال لقضاء الله فيما رأيت من آيات التحول فى صوته وهيئته وبين تجاهل لشائعات الموت وإنكار للمصير. فاجأني الخبر – على انتظاره – فانفجر بكاء مهزوم. ظني اننا تكتمنا خسارة نور حتى لاتمتد أبعد وتنشب فى وطن لايحتمل مزيداً من خسارة. ساعدنا على ذلك شموخ عائلته فى الحزن. حزن بجلال. من قصر الشوق للسراب للسكرية. وللأخير معزة خاصة. " كل الناس بتكبر وبتتغير (...) رضوان سكرتير وزير، حتى جليلة بتوب ! وانا زي ما انا، خوجة فى مدرسة السلحدار الابتدائية وباكتب مقالات فى مجلة الفكر ما احدش بيقراها ... " قد يبدو هذا مدخلاً ساخراً لفراق أليم. ومع احترامي لكل المطبوعات التي كتبت بها وأكتب، طبعت هذه الجملة على روحي. أيقونتي التي ظللت أرددها ساخرة حتى نسيتني لأنها تحققت كنبوءة لبعض جيلي. "طز" فى كل كمال عبد الجواد. كعادته التي ستنمو فيما تلا من أيام يجمع بين الأضداد عميقاً.فى سنوات قليلة كان يجمع بين وضاءة الصبا والإقبال والبسمة المشرقة، وبين رصانة العمر وخيبة الآمال. بعويناته المستديرة وعيونه الحائرة يذيل متهكماً لقاءه برضوان ابن أخيه الذي يباهي بأن الوزارة فى يده: " لا أنا مطمن ... حاجة تطمن ! " اكتسب باكراً من نشأته ودراسته المدعومة بالموهبة والثقافة حساً مأساويا فى أدائه، فتستطيع أن تلمس فى نقطة الضوء فى وجهه غروباً قادماً لا محالة. هكذا انتقل من خفة روح مسلسل ظهوره الأول (القاهرة والناس) لمحمد فاضل إلى (أديب) طه حسين ويحيي العلمي، وهكذا أرانا عذاب (كاليجولا) لألبير كامي وسعد أردش حتى ملاقاة الموت وصحبته فى (يا مسافر وحدك) لهاني مطاوع. أفتقدُ كثيراً المكانة التي أعطاها نور لفن التمثيل بثقافته وخبرته العميقة والعريضة بالمسرح وصناعة السينما واتساع تذوقه. فقدت مصر صانع ألعاب فنية. مغامر فى الإنتاج يحلم بقوة شخصيات الدراما الأجنبية فيقدم (قطة على نار) مع رفيق الصبان عن عمل لتنسي وليامز وغيره من المشروعات المقتبسة. ويغوص فى تاريخنا الإسلامي والمعاصر، فيبحث بوعي عن عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، وهارون الرشيد، وناجي العلي. غوص وبعض إسقاط مكير وموقف مكلف أيضاً. صقل النهم للمعرفة وجوده لكنه لم يثقله عن سواق الأتوبيس والحاج عبد الغفور البرعي والحاج متولي. من محيط أصوله الشعبية فى قلب السيدة زينب ينهل مازال، وحيث أودعت أسرته، بحكمة نبيلة، مقتنياته فى بيت السناري. ليس أني لم آغضب منه كثيرا وأنفصل عن إنتاجه سنواتٍ أحياناً. ذلك أن هذا المثقف الكبير لم يغب عنه – كما أردت أن يغيب عني دوماً – البعد التجاري، وكما كان يردد إن "التمثيل والفن للأسف سلعة". وكان يدرس نماذج الممثلين الكبار الأطول عمراً فى الفن، وكان الذي عاصره نموذجاً من حيث الاستمرارية والتحول هو الفنان فريد شوقي. فيضنيني بجماهيرية (الدالي) إلا فيما ندر من لحظاتها الفنية ليفيض حساسية وشعوراً ودهاء فى (الرحايا) بعد أن ظننت ألا عودة لهذا الفيض. يستكمل كتاب الغيرة الذي بدأه مع الدالي، ولكن فى صعيد مصر، وعلى نحو فني خلاب مع عبد الرحيم كمال وحسني صالح. فى طريق عودتي من موسكو اكتملت أسعد وأصفى رحلات عمري بمفاجأة. (بتوقيت القاهرة) الفيلم العربي الوحيد فى القائمة. آخر أفلامه. كان قد فاتني أيضاً ضمن آليات إنكاري للحظات الأخيرة. جميعها. فى الفيلم الأخير يقوم رجل مصاب بالزهايمر فى آخر أيامه برحلة بحث أخيرة للقاهرة عن صاحبة صورة فى جيبه لا يعرفها أو يذكرها، لكنه يتوق لرؤيتها. ويقرر بوعي وقسوة على نفسه ألّا تصحبه ابنته الحبيبة فى هذه الرحلة المنفردة. على هذا الخط الأليم يسير الممثل العظيم محققاً مشهده الأخير. يخلط الخيال والرمز بلحظته الآنية خلطاً دافقاً عابراً فريداً، وجديراً بإمضائه الأخير كما أشارت حبيبته الدائمة، الجميلة بوسى.