تتعالي بين الفينة والفينة بعض الأصوات بالهجوم علي السنة النبوية. وهذه الدعوي تهدف أول ما تهدف إلي هدم الدين من أساسه. وتقويض أركانه. وفي هذه الأيام يثار ضجيج صاخب. وفحيح سام. بالهجوم علي سنة الحبيب عليه الصلاة والسلام. اكتفاء بما جاء في القرآن الكريم. ويتجلي هذا الهجوم ومظاهره في الطعن في بعض الصحابة ممن رووا الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم كأبي هريرة وغيره من الصحابة. ومن خلال الهجوم علي علماء السنة كالبخاري والمسلم. والطعن في الصحابة وفي علماء الحديث. الهدف منه هو هدم الدين وتقويض بنيانه. وهدم أركانه. ذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية صنوان لا يفترقان. وهدم أحدهما يعني قطعا هدم الآخر. وهدم الأحكام التكليفية التي جاء بها الإسلام. ذلك أن جل هذه الأحكام التي جاءت في القرآن الكريم مجملة. مثل الصلاة. والصيام. والزكاة. والحج. وغير ذلك وبينتها السنة. بيانا واضحا لمجموع المكلفين. حجية السنة: السنة النبوية هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم وقد دل علي حجيتها قوله تعالي: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" وقال عز وعلا: "فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" قال الشافعي: "إن الله عز وجل وضع نبيه من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه. فالفرض علي خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقول فيما أنزل الله عليه. إلا بما أنزل عليه. وأنه لا يخالف كتاب الله. وأنه بين عن الله عز وعلا معني ما أراد الله. وبيان ذلك في كتاب الله عز وجل. قال الله تبارك وتعالي: "وإذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحي إلي". وقال الله عز وجل لنبيه صلي الله عليه وسلم: "أتبع ما أوحي إليك من ربك" وقال مثل هذا في غير آية وقال عز وجل: "من يطع الرسول فقد أطاع الله". دعوي الاستغناء بالقرآن الكريم عن السنة: يزعم البعض عدم حجية السنة اكتفاء بالقرآن الكريم ويستندون في دعواهم هذه علي قوله تعالي: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء". وردا علي ذلك أقول: إن ما زعمه البعض من الاستغناء بالقرآن عن السنة لأن الله تعالي نزله: "تبيانا لكل شيء" زعم باطل ودعوي مردودة. يردها القرآن نفسه. لأن مما بينه القرآن أن الرسول مبين لما أنزل الله. قال تعالي: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" كما بين أن طاعة الرسول واجبة. لأنها من طاعة الله تعالي. وترد هذه الدعوي أيضا السنة والإجماع. فقد روي البيهقي بسنده عن أيوب السخياتي أن رجلا قال لمطرف بن عبدالله: لا تحدثونا إلا بما في القرآن: فقال مطرف: إنا والله ما نريد بالقرآن بدلا. ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا يريد رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقال أيوب: إذا حدثت الرجل بسنة. فقال: دعنا من هذا. وأنبئنا عن القرآن. فاعلم أنه ضال ومن ثم فإن إنكار حجية السنة. والادعاء بأن الإسلام هو القرآن وحده. لا يقول به مسلم. يعرف دين الله. وأحكام شريعته تمام المعرفة. وهو يصادم الواقع. فإن أحكام الشريعة إنما ثبت أكثرها بالسنة. وما في القرآن من أحكام إنما هي مجملة. وقواعد كلية في الغالب. وإلا فأين نجد في القرآن أن الصلوات خمس؟. وأين نجد ركعات الظهر؟. ومقادير الزكاة؟. وتفاصيل شعائر الحج؟. وسائر أحكام المعاملات والعبادات؟ قال ابن حزم ردا علي منكري السنة ونسأل قائل هذا القول الفاسد. في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات. وأن المغرب ثلاث ركعات. وأن الركوع علي صفة كذا. والسجود علي صفة كذا. وصفة القراءة فيها. والسلام. وبيان ما يجتنب في الصوم. وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة. والغنم. والإبل. والبقر. ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة. ومقدار الزكاة المأخوذة. وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة. وصفة الصلاة بها. وبمزدلفة. ورمي الجمار. وصفة الإحرام. وما يجتنب فيه. وقطع يد السارق. وصفة الرضاع المحرم. وما يحرم من المآكل. وصفة الذبائح. والضحايا. وأحكام الحدود. وصفة وقوع الطلاق. وأحكام البيوع. وبيان الربا. والأقضية. والتداعي. والإيمان. والأحباس. والأوقاف. والعمري والصدقات. وسائر أنواع الفقه. وإنما في القرآن جمل. لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها. وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلي الله عليه وسلم. علاقة السنة بالقرآن: القرآن الكريم هو أساس الشريعة. وعمدتها. والسنة هي مبينته وشارحته. ولهذا اعتبرت المصدر الثاني للإسلام. فرتبتها تلي مرتبة القرآن. لأن مرتبة البيان بعد مرتبة المبين. ولأن القرآن كله ثبت بالتواتر اليقيني. الذي لا ريب فيه. بخلاف السنة. فبعضها ثبت بالتواتر. ومعظمها ثبت بالآحاد. وقد دل حديث معاذ وعمل الخلفاء الراشدين. علي أن الحكم الشرعي يطلب في القرآن أولاً. فإن لم يوجد فيه طلب في السنة. وقد تتبع العلماء الأحكام الثابتة بالسنة علي ضوء ما ورد بكتاب الله تعالي من أحكام فوجودوها تأتي علي أربعة أنحاد ومقاصد: الأول: تأتي السنة موافقة للكتاب: فتكون حينئذ واردة مورد التوكيد ومن هذا القبيل قوله. قال: "لا يحل مال رجل مسلم لأخيه. إلا ما أعطاه بطيب نفسه" فالسنة هنا جاءت موافقة للكتاب في قول الله تعالي: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما". الثاني: أن تأتي السنة مبينة لما أجمله القرآن الكريم. وموضحة لما أشكل. ومخصصة للعام. ومقيدة للمطلق. 1- مثال بيان المجمل: قوله تعالي: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" فهذه الآية أوجبت الصلاة. والزكاة. علي المسلمين دون بيان لما يجب أن يؤدبه المسلم. فجاءت السنة النبوية وبينت عدد الركعات التي يجب علي المسلم أداؤها. في الصبح ركعتان. وفي الظهر والعصر أربع. وفي المغرب ثلاث ركعات. وفي العشاء أربع. وبينت السنة الأموال التي تجب فيها الزكاة. سواء في النقدين. والأنعام. والزروع والثمار. وعروض التجارة. والمعدن. والركاز. وبينت المقادير الواجبة في كل نوع من هذه الأنواع. وكذا النصاب في كل منها. 2- مثال بيان السنة لما أشكل فهمه في القرآن الكريم: قال تعالي: "وكلوا واشربوا حتي يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلي الليل" وروي عن عدي بن حاتم أنه أخذ خيطين أبيض. وأسود. وتركهما علي وسادته. وراعاهما إلي الصباح فلم يستبن له. فلما أصبح أخبر رسول الله صلي الله عليه وسلم. فقال: إنك لعريض الوساد. إنما هو بياض النهار. وسواد الليل. والعرب تسمي فجر الصبح خيطا. 3- مثال تخصيص السنة للفظ العام من القرآن الكريم: قوله تعالي: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال الشوكاني في فتح القدير: "والمراد بالظلم: الشرك لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك علي أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون. إنما هو كما قال لقمان "يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم". 4- تقييد السنة للمطلق: تأتي السنة مقيدة للمطلق من القرآن الكريم: ومثال ذلك قوله تعالي: "من بعد وصية يوصي بها أو دين" فهذا الإطلاق قد قيد بما ورد أن الرسول بين لسعد بن أبي وقاص أن الوصية تكون في حدود الثلث فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلي الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة. وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها. قال: يرحم الله بن عفراء. قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله قال: لا. قلت: فالشطر. قال: لا. قلت: الثلث. قال: فالثلث والثلث كثير. إنك أن تدع ورثتك أغنياء. خير من أن تدعهم عاله يتكففنون الناس في أيديهم. وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة. حتي اللقمة التي ترفعها إلي في امرأتك. وعسي الله أن يرفعك. فينتفع بك ناس. ويضر بك آخرون. ولم يكن له يومئذ إلا ابنه". الثالث: أن تأتي السنة دالة علي حكم سكت عنه القرآن الكريم مثال ذلك: ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام شرع الرهن في الحضر. فإن القرآن الكريم قد شرع الرهن في السفر قال تعالي: "وإن كنتم علي سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة". وأيضا: قوله عليه الصلاة والسلام عن ابن عباس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أريد علي ابنة حمزة أن يتزوجها. فقال إنها ابنة أخي من الرضاعة. فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" مع أن القرآن الكريم لم ينص إلا علي تحريم الزواج من الأمهات اللاتي أرضعن والأخوات من الرضاعة قال تعالي: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة" فنصت السنة علي أن الرضاعة تحدث نفس الآثر الذي تحدثه القرابة. فما حرم بسبب القرابة عن طريق الأمومة أو الأبوة أو الأخوة أو العمومة يحرم مثله من النسب.