ربما يتخذ الإنسان قراراً في لحظة تسرع أو يحدث في الأمور ما يدعو الإنسان لمراجعة نفسه فيما خرج من ذمته تقرباً لله لذلك فقد أباحت الشريعة الغراء الرجوع في الوصية لاسيما وأننا قد انتهينا إلي أن الوصية عقد غير لازم علي قول جمهور الفقهاء لذلك فإنه يجوز للموصي ما دام حياً الرجوع عن الوصية كلها أو بعضها وقد اتفق الفقهاء علي أن الرجوع عن الوصية يكون بالقول الصريح وبالفعل أو بكل تصرف يدل علي الرجوع أو ينبيء عنه. وقد أجاز الشرع الحنيف للموصي الرجوع عن الوصية لوجهين الأول.. أن الوصية تبرع كالهبة حيث يجوز الرجوع فيها فمن باب أولي يجوز الرجوع في الوصية لأنها لم تتم حيث إن تمامها بموت الموصي. الثاني.. أن القبول في الوصية يتوقف علي الموت فجاز الرجوع عنها قبل القبول لاسيماً أن الإيجاب المفرد في عقود المعاوضات يجوز إبطاله فمن باب أولي في عقود التبرع. ولقد اختلف الفقهاء في الأفعال والتصرفات التي يمكن اعتيادها رجوعاً عن الوصية حيث ذهب الأحناف أن للموصي الرجوع عن الوصية حتي لو قبلها الموصي له وللرجوع عند الأحناف ثلاثة أمور الأول بالقول الصريح كأن يقول رجعت عن وصيتي لفلان أو كل وصية أو صيتها لفلان باطلة والثاني.. رجوع فعلي أو بأدلة كما لو أوصي بشاة لفلان ثم قام بذبحها فالدلالة هنا تعمل عمل التصريح وبناء علي ذلك تكون الوصية قد أبطلت والثالث هو ما يفيد الرجوع بالضرورة بأن يتغير الموصي به ويتغير اسمه كما لو أوصي بما في كرمه من العنب ثم يبس حتي صار زبيباً. وهناك تفصيل كبير في هذه الأحكام سواء في الرجوع الفعلي أو الدلالي ليس محله الآن ولكن التساؤل هل جحود الوصية يعتبر رجوعاً كأن أنكر الموصي بأنه لفلان بدار مثلاً وقال لم أوص قال محمد لا يكون ذلك رجوعاً وقال أبو يوسف جحود الوصية يعتبر رجوعاً عنا واختلاف علماء الأحناف في ترجيح أحد الرأيين فقول محمد عليه المتون وهو مختار صاحب الهداية لأنه أخر دليله وجعله في المجمع مختاراً للفتوي. واستدل أبو يوسف علي أن جحود الوصية يعتبر رجوعاً عنها بأن الجحود نفي للوصية في الماضي والحال فكان أقوي من الرجوع يعتبر دليلاً علي عدم الرضا بالوصية فيكون دليلاً علي رجوعه عنها واستدل محمد بعدم جواز الجحود رجوعاً حيث إنه نفي في الماضي وهو باطل والانتفاء في الحال ضرورة وبالتالي يكون مجحوداً لغواً وكذلك اعتبر الجحود سبق للعدم إذ الجحود نفي لأصل العقد فلو كان الجحود رجوعاً لاقتضي وجود الوصية وعدمها وهو محال ومثله جحود النكاح لا يكون خلافاً. والخلاصة أن الأحناف توسعوا في دائرة ما يعتبرونه رجوعاً عن الوصية حيث يعتبرون الرجوع كل ما كان بالقول الصريح أو الدلالي أو ما يثبت بالضرورة. ولقد وافق المالكية الأحناف في الرجوع الصريح وبالفعل الذي يعتبر استهلاكاً للوصية كمن يذبح الشاة الموصي بها وهناك أساسان عند المالكية للرجوع عن الوصية الأول.. هو أن الرجوع في العطايا في هذا المذهب ليس بالأصل وإنما هو استثناء ولم يجز الرجوع في الوصية لأنه لا ينفذ حكمها إلا بعد موت الموصي. والثاني.. أن المذهب المالكي لا يعتبر من الأفعال أو التصرفات رجوعاً إلا ما ينصب بجوهر الموصي به وحقيقته أو يعتبر استهلاكاً له أو يدل علي أن الموصي قصد به الرجوع عن الوصية. ولقد خالف المالكية الأحناف في الذي يثبت ضرورة كمن أوصي بما في كرمة من العنب فيبس حتي أصبح زبيباً فإن الوصية لا تبطل أخذاً من مذهب المالكية وهو ما ارتضاه صاحب جواهر العلام. ولقد نظم القانون الوضعي أحكام الرجوع عن الوصية فاتفق مع ما ذهب إليه الفقهاء بداءة من جواز الرجوع في الوصية لاسيماً أن الوصية عقد غير لازم كما وافق إجماعهم علي الرجوع بالقول الصريح أما الرجوع الفعلي أو الدلالي فلم يعتبر منه إلا ما كان استهلاكاً للموصي به أو مزيلاً لملك الموصي عنه. فهو بذلك لا يعتبر التغير الذي يلحق بالموصي به بالزيادة أو النقصان أو بالخلط بحيث يتعذر تميزه رجوعاً إلا إذا دلت قرينة أو عرف علي أن الموصي يقصد بذلك الرجوع. وقد نصت المادة 18 من قانون الوصية علي الآتي "يجوز للموصي الرجوع عن الوصية كلها أو بعضها صراحة أو دلالة ويعتبر رجوعاً عن الوصية كل فعل أو تصرف يدل بقرينة أو عرف علي الرجوع عنها ومن الرجوع دلالة كل تصرف يذيل ملك الموصي عن الموصي به". وكذلك نصت المادة 19 من ذات القانون " لا يعتبر رجوعاً عن الوصية جحدها ولا إزالة بناء العين الموصي بها ولا الفعل الذي يذيل اسم الموصي به أو يغير معظم صفاته ولا الفعل الذي يوجب فيه زيادة لا يمكن تسليمه إلا بها إذا دلت قرينة أو عرف علي أن الموصي يقصد بذلك الرجوع عن الوصية وهاتان المادتان قد اتفقتا مع ما ذهب إليه الفقهاء من حيث الرجوع الصحيح وما ذهب إليه الأحناف من الرجوع دلالة وكذلك أخذ برأي محمد من الأحناف بعدم اعتبار الجحود رجوعاً عنها وأخذ برأي المالكية في رجوع القرينة الدالة عن الرجوع أو عرف في الرجوع الدلالي وما يثبت ضرورة. وبذلك يكون القانون في الرجوع عن الوصية قد أخذ من مذاهب الفقهاء المختلفة وهي ما نتمناه في القوانين بصفة عامة أن تستقي أحكامها من الشريعة الإسلامية الخالدة علي مر العصور والأزمات.