ظلت مكة قبل أن يقام بها البيت الحرام خالية من السكان إلا من مرور القبائل في رحلاتهم إلي الأماكن المجاورة. وعودتهم إلي بلادهم. ولم يكن بها علي سبيل الإقامة إلا قبائل جرهم. والعماليق. واستمر الحال كذلك حتي استقر بها إسماعيل. ورفع قواعد البيت العتيق مع أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. والذي أحدث تطوراً كبيراً بالمنطقة. مما رفع مكة إلي مصاف الحضر. أو ما يشبه في عصرنا البلاد المتقدمة. ومع هذا التطور. ظلت مكة متمسكة بطباع البداوة الأولي.. وقد ذكر بعض المؤرخين أنها ظلت بلا قيادة حتي القرن الخامس الميلادي فاجتمع أمرها لقصي بن كلاب الجد الخامس للنبي محمد صلي الله عليه وسلم فكان لزاماً ألا تستمر مكة علي بداوتها. وقد أثبت التاريخ أن أمر البيت بقي بعد إسماعيل في يد أخوال أولاده من الجراهمة أجيالاً متعاقبة. حيث أقاموا جولة علي حين كانت مكة. ملتقي القوافل التجارية إلي اليمن والحيرة والشام. ونجد. مما جعل لها عاقات تجارية بالعالم الخارجي عن طريق البحر الأحمر!!. لم يستمر الحال هادئاً بين جرهم والعماليق الأشداء. بل نشب خلفا استعر أواره كما هي العادة حول من يتولي أمر الكعبة. وانتهي الأمر بهزيمة العماليق. ونصر الجراهمة. وتولي الأمر الذي استمر. حتي عهد مضاض بن عمرو بن الحارث صهر إسماعيل عليه السلام. وفي عهده. راجت التجارة. وعم الرخاء سنين طويلة كانت سبباً في فسوق المترفين الذين نسوا أنهم نزلوا بواد غير ذي زرع ستوجب بذل الجهد. والعرق والكدح حتي تدوم. فما لبث ماء زمزم أن نضب بسبب عصيان الجراهمة. والذي كان سبباً في أن تفكر بعض القبائل في الوثوب علي القيادة بمكة. والبيت الحرام. فكان ذلك قضاء علي زعامة الجراهمة وضياع هيبتهم!!.. لم يرض مضاض بن عمرو عن فسوق قومه وترفهم. وحذرهم العاقبة. ولما لم يستجيبوا للرشد. وظلوا في غيهم أيقن أن النعمة لابد زائلة. وأن الأمر بات متوقعاً أن يجاوزهم إلي غيرهم. مما حدا به أن يستعد للحفاظ علي بئر زمزم فعمقها. وعمد إلي غزالتي الذهب أو السيوف الذهبية. والأموال الطائلة التي كانت تهدي إلي البيت الحرام ودفنها بقاع زمزم. وأهال عليها التراب والرمال أملاً في أن يعود له الأمر يوماً. فيستفيد من هذا الكنز. وصدق حدس مضاض. فقد أغارت قبيلة خزاعة علي البيت الحرام مستغلة ضعف الجراهمة. واستولوا علي قيادته زمناً طويلاً. حتي قبض الله من ذرية إسماعيل قصي بن كلاب الذي أعاد الأمر قسراً إلي الجراهمة!!.. انتهي الأمر بمكة إلي قصي في القرن الخامس الميلادي. وهنا كانت مرحلة انتقالية بالمنطقة علي يديه. ويحسن بنا أن تكون لنا إطلالة سريعة ومرور عابر. وترجمة مختصرة عن حال قصي منذ ولادته. حتي الت إليه مناصب الكعبة.. وتروي كتب التاريخ أن كلابا الجد الخامس للرسول صلي الله عليه وسلم تزوج من فاطمة بنت سعد بن سيل. وأنجبت له ابنين هما: زهرة وقصي. ولكن القدر لم يمهل كلابا حتي يقوم علي أمر بنيه. فمات وما يزال قصياً في المهد. مما اضطر زوجته فاطمة حفاظاً علي كرامتها أن تتزوج من ربيعة بن حرام الذي أسرع بالرحيل بها من مكة إلي الشام. ولم تلبث أن ولدت له ولداً سمي دُراجاً. ونشأ قصي وأخوه لأمه دُراج لا يعرف له أباً غير ربيعة. حتي اختلف يوماً مع أترابه من آل ربيعة. فعيروه بأنه ليس من قبيلتهم. وأنه نزل بجوارهم فكان ذلك إهانة. لم يرض عنها!!. ثار قصي. وحزن من إهانة آل ربيعة. فأسرع إلي أمه شاكياً باكياً. مما عيره به أترابه. فقالت له: إنك لأكرمهم أباً. فأنت ابن كلاب بن مرة. قومك هم كرام الناس بمكة. فرح قصي بذلك النسب الكريم وفكر ملياً في العودة إلي مكة ليعيش بين أهله وذويه. ولم يمض وقت طويل عاد إلي أهله ومكة والبيت الحرام!!.. اشتهر قصي بالجد والحزم بين أهل مكة. مما كان سبباً في احترام أهلها له حتي أن بعض زعمائهم وهو حليل بن حبشية. سادن الكعبة زوجه. بابنته حبي التي أوصي لها بمفتاح الكعبة بعد موته فلم ترضي. فآل الأمر إلي خزاعي داعر سكير هو غبشان الخزاعي. والذي باعه لقصي بزق خمر. ومن يومها آلت مناصب الكعبة جميعاً إلي قصي بن كلاب. وهي: الحجابة. وهي سدانة البيت الحرام وتولي مفاتيحه.. والسقاية وهي سقيا الحجيج.. والرفادة. وهي إطعامهم.. والندوة. وهي رياسة الاجتماع علي مدار العام.. واللواء وهي راية الجيش المرفوعة عند لقاء العدو في الحرب. وساعده علي ذلك كثرة أمواله. وأولاده. حتي يقوم بهذا الأمر الجلل علي خير وجه!! وإلي لقاء مع البيت الحرام. والله من وراء القصد. وهو المستعان.