الحراك الفكري الذي تمر به مصرنا العزيزة في هذه الأيام بين مد وجزر فيرتفع الشقاق حيناً وينحسر تارة أخري. وهو موضوع قديم جديد.. فالصراع الفكري قائم والصدام متكرر في جميع مناحي وموضوعات الحياة. ومرد هذا إلي إصرار بعض الأطياف علي مبادئها حتي ولو كانت غير واقعية ومخالفة لهوية الأمة. وإلقاء الطابع الديني جانباً إلقاءً إقصائياً كاملاً يلغي تماماً الاسترشاد أو الاستناد إلي الأحكام والمبادئ والقوانين ذات المرجعية الدينية في أي قضية معاملاتية أو قانونية. ولو كان الحل واضحاً تماماً وكاملاً حتي ولو كان مطابقاً للحل المدني البشري فالأولوية للفكر البشري وكيف يتجرأ الدين ويضع حكماً أو حلاً لهذه المسألة وما شأنه حتي يتدخل فيعتنق هذا الجانب الحل الديني في هذه المسألة ويفضله علي الحلول المدنية التي جاءت مطابقة بناء علي فطرة الإنسان لما جاءت به الشرائع السماوية التي وصفها المولي عز وجل بقوله "فطرة الله التي فطر الناس عليها" وبالتالي ينبغي علي كل الأطياف أن تبدأ في فهم مناهج الأديان وأنها عبارة عن برامج متكاملة للحياة.. فالله سبحانه خلق الإنسان وأنزله في الأرض لما له من إمكانيات عقلية وإدراكية فضله بها علي سائر المخلوقات أنزله ليعمر الأرض وينشئ أبواب ومصادر الرزق وهذا يحتاج إلي برنامج عملي للمعاملات والعقود والبيع والشراء وحظر الظلم والغش إلي جانب عبادة الله وفهم العقيدة وتدرجت هذه الأحكام حتي وصلت إلي التشريع الإسلامي ليكون الدين المعاملة فوضع النصوص لتتناسب مع هذا الهدف وهو أن النصوص ثابتة ومجملة والتطبيقات متغيرة ومفصلة ليكون هذا التشريع مستمراً إلي يوم الدين يكفي لصلاح كل ما يستمد من قضايا ليواكب كل جديد ومستحدث فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا يفرط في شيء من منظور حياتي بتأصيل ديني متمثل في النصوص من الكتاب والسنة. ولم ينس هذا التشريع أن يقر بأنه لا يقصي المدني الخالص الذي لم يتعرض له المعني الديني بالتفصيل فلا حرج في الاستفادة من أي اجتهاد فكري في أي شأن من شئون الحياة ما دام لا يتعارض مع ثوابت الشرع وأحكام الحل والحرمة بغض النظر عن فكر صاحبه ولا انتمائه السياسي أو العقدي. إذا ما سبب فقدان الثقة بين الجميع ما دام الأمر علي هذا النحو؟ أولاً: من جانب أهل اليسار والليبراليين والعلمانيين ومن ينحو نحوهم.. لا يسمحون بدور ولا تبرير ولا لمرجعية مطلقاً للدين أي الإقصاء الكامل لهوية الأمة الدينية ويوسعون من مفهوم المدنية ليشمل كل شيء. ورغم أن الجانب الآخر وهو الفصيل السياسي الإسلامي يوضح أنه لا توجد في الإسلام دولة دينية إنما هي الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية فلا يعقل أن أجد دليلاً لمسألة في المعاملات في صورة آية أو حديث وأهمله وأذهب لرأي قانوني وضعي والأمثلة كثيرة. إلا أن الخوف مازال يملأ قلوب وعقول الجانب الآخر فلا يثقون في المرجعية الدينية لقضايا الحياة وليس لديهم استعداد لا لقراءة المنهج ولا الفكر الإسلامي بل رفضه تماماً. خاصة أن التيار صاحب المرجعية الإسلامية لم يجتهد في شرح منهج الإسلام الشامل لكل أدوار الحياة ولم تتعاون المؤسسة الدينية في تبسيط القضايا واسنادها إلي الرأي الفقهي الصحيح بما لديها من خبرة وعلماء. وزاد من هوة الثقة والبعد في مساحة الاختلاف هو حدوث بعض الممارسات التي زادت من هوة الاختلاف هي التعجل والتسرع في الحصول والوصول إلي أكبر مساحة من التطبيقات علي أساس ديني - وعدم المصارحة والشفافية في التمسك بالعهد والوعود - وأحياناً الإعلان عن أمور تخالف التقديرات غير المعلنة لديهم - ودلل أصحاب الاتجاه الآخر بأن أهم النماذج علي صدق ما يقولون إما بحسن نية أو محاولة اصطياد الأخطاء مشكلة تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وما شابها من محاولات لتفسير تشكيلها حسب الاتجاه الفكري - ولم الخوف.. يقولون إن مجرد احتمال سيطرة الفكر الإسلامي المتمثل في الأغلبية البرلمانية أو في فكر أعضائها من الخارج الذين يضمرون اهتماماً دينياً وكأنه سبة - فتمرر مسائل هامة تصبغ بأوامر الله وهذا مما تضيق له نفوس الآخرين.. فلنهدم المعبد ونقيم القضايا أمام المحاكم ونسارع إلي القانون الذي ظلم بإهداره من الجميع - أو بادعاء أن الشرعية الثورية الغت الدساتير وتعدل القوانين فكان أول أثر فادح لانعدام الثقة هو تعطيل عجلة الدستور - بل وصل الأمر إلي احداث قطيعة بين البرلمان والحكومة بناء علي تناقض أفكار الطرفين واتهام البرلمان بأنه مضطرب ولا يشرع وكسول ويضم جماعة من غير ذوي الخبرة لمجرد أن أغلبيته التي جاءت بأغلبية الشارع وبإرادة حرة نزيهة وبصندوق شفاف مادامت أغلبية دينية يجب أن يتهم ويعطل حتي لا ينتج فيتهم بالعجز ولو ترتب علي ذلك التضحية بمصلحة الوطن في هذه الأزمة. ويساعد التيار السياسي الليبرالي وبقوة غريبة الترويج لفكرة جشع التيار الإسلامي - وأنه عجز عن مهمته قبل أن تبدأ وأنهم أعداء لمصلحة الوطن وإظهارهم في صورة الأعداء وأن كل مشاكل البلاد والعباد بسببهم وأن برلمانهم لم يحقق شيئاً وتكاتف الإعلام الرسمي والخاص فجأة بعد أن كان مسلحاً بما جاء به الصندوق - وامتدحهم. إلا أنه ظهر أن الكثير من هذه القنوات الخاصة لها انتماءات واجندات والذين ينفقون عليها إما لهم ارتباط برجال أعمال أحزنتهم الثورة وتغييراتها في البلاد وعز عليهم أن تستقر البلاد ويستقيم العباد.. يتبادل مذيعون وإعلاميون يعملون لصاحب هذا التيار وظهرت مواقفهم أمام الثورة متباينة علي العهد السابق متعاطفين معه - هذا التحول السريع مع أنهم أصحاب مصالح لا يهمهم إلا ما يدخل في جيوبهم لذا سرعان ما نجدهم ينتقلون من قناة لأخري تدفع أكثر - لهم فريق من المعدين يختارون المتحدث الذي يؤيد اتجاههم ويحرمون أصحاب الكلمة والرأي بل إن ذلك حدث معي شخصياً عند دعوتي لمثل هذه القنوات هل أنت مع فكرتنا أم ضدها - ومن ترشح لنا ممن تتوقع معارضتهم للإسلاميين أو يؤيدنا.. لذا أصبح الضيوف يظهرون في الليلة الواحدة في أكثر من ثلاث أو أربع لقاءات يحمل فيها الضيف في سيارته كالفنانين أكثر من جاكت أو كرافت - ليس هذا فقط بل يوجهون الكنترول علي الهواء بإدخال من يعرفون أنهم سيسبون وينتقدون الإسلاميين - وفي مصطلحات ماذا فعلتم - نادمون علي اختياركم - ويصل الأمر إلي تدعيم المذيع أو المذيعة لإعلان انحيازها للهجوم وتتطوع بأسئلة إضافية لتأجيج نار الفتنة ويشعر بالنصر عندما يتلاشي الضيوف وينسحب بعضهم من الحوار علي الهواء وقد تنابذ هذا وشتم ذاك. ولكن هيهات أن تكون الأقلام أو الكاميرات لها تأثير عميق علي العامة الذين لا يشاهدون ولا يهتمون إلا بلقمة العيش وما يقربهم إلي ربهم ولم يتعظ هؤلاء أنهم في واد والصناديق تأتي بواد آخر وأن النخب القليلة بمثقفيها وفلاسفتها لا تتجاوز آراؤهم الحناجر. ولكن أين الحل المنشود للتقريب وليس التفريق - وإعادة الثقة المفقودة بين أطياف المجتمع؟ يجب إعطاء كل طرف فرصته والاستماع إلي أفكاره بحكمة وتعقل ودون إقصاء ومحاولة الفهم الصحيح وهو أننا جميعاً نخضع لسلطة الله في كل شيء ولا توجد سلطة في العالم لا تخضع لإرادة الله. - لابد أن يأخذ أرباب الفكر الإسلامي بيد الطرف الثاني وأخذ نقاط الاتفاق منهم فهم يكرهون الظلم والديكتاتورية وينادون بالحرية والعدالة واشتركوا في الثورة وعاونوها وهي نسبة اتفاق ليست بالقليلة.. قبل الدخول في دائرة حوار فيما يكون الاختلاف فيه. ينبغي أن يقدم كل طرف مصلحة الوطن والاعتصام بحبل الله وعدم التفرق - تصديقاً لقوله تعالي: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" وقوله تعالي: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها".