هناك عبارة للإمام أبو حامد الغزالي لاتزال عالقة في الذاكرة منذ الصغر، كانت مكتوبة أعلي حائط في حجرة الموسيقي بالمدرسة الابتدائية النموذجية، تقول: من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فإنه فاسد المزاج، ليس له علاج. وعندما يأتي الربيع وتتسلل إلينا رائحة زهر الليمون والبرتقال بعد غروب الشمس ومع نور الصباح من حديقة الموالح المجاورة لمنطقتنا.. كانت كلمة (الله) تصدر من الجميع.. وقد سولت لنا أنفسنا مرات عديدة أن نقطع بعض الأغصان التي تحمل الزهور المتفتحة، لنضعها في فازة بها مياه لنحتفظ برائحتها الجميلة أطول فترة ممكنة. وبمجرد علمي بافتتاح معرض زهور الربيع بحديقة الأورمان، وجدتني أنسي منظر الحقنة وهي تسحب الدم الأحمر الغامق من يدي لإجراء بعض التحاليل وأركب أسرع مواصلة لتأخذني إلي هناك.. ويالها من لحظة استمتاع وسعادة أن أتجول بين زهور ونباتات المشاتل والحدائق وأدوات ومعدات ومستلزمات زراعتها وتنسيقها وإنتاجها وعلاجها.. إنه عالم من السحر والجمال، عشت فيه لدقائق لم تطل كثيرا، بعد أن أعلنت قدمي اليمني العصيان ورفضت المزيد من التجوال.. فما كان مني سوي الاستسلام وحمل ماخف وزنه من أصيصات الزهور والعودة إلي صخب الحياة من جديد. وهذه دعوة لمن يحركه الربيع وأزهاره لزيارة هذا المعرض الذي يستمر حتي شم النسيم المقبل من الساعة التاسعة صباحا حتي الحادية عشرة. بعد بوابة الدخول بأمتار معدودة.. جذبتني بعض الصباريات بزهورها ذات الألوان الرائعة.. فقمت بالتقاط بعض الصور لها بكاميرا المحمول، التي ما إن بدأت لم تتوقف عن التصوير إلا بعد دخولها حقيبة يدي عند خروجي من بوابة المعرض، وكأنها تريد تسجيل اللحظة لي، معربة عن سعادتها بالتقاط كادرات جميلة لمناظر طبيعية خلابة وزهور ونباتات نادرة. وقد وقعت عيني علي مجموعة صباريات في أصيصات صغيرة ولكنها رقيقة وناعمة في تفاصيلها.. وعندما سألت العارض عن سعر إحداها، رد عليّ بأنها خمسة جنيهات، مضيفا أن أسعارها جميعا تتراوح مابين 5.1 جنيه إلي 5 جنيهات وعند التعارف، اكتشفت أن العارض هو جاسر صبحي عبد المجيد مهندس ديكور (لاند سكيب) وصانع أحواض زهور ومنتج نباتات طبية وعطرية وصباريات، وأخذنا الحديث إلي أنه يعرض منذ 6 سنوات حتي أنه أيام الثورة استطاع أن يغطي مصاريفه بعد أن تعرض للخسارة في أول عامين بالمعرض، وذلك بعد أن ربي زبوناً، فقد اكتسب ثقته.. فالمهندس جاسر بمجرد أن يجد أحدهم يقترب لقراءة اللافتات الإرشادية التي يضعها فوق معروضاته، يجاذبه أطراف الحديث ويعطي له المعلومة الصحيحة بداية من اسم النبات إلي آخره. ويؤكد أن المرأة بصفة عامة هي زبون النباتات العطرية والطبية ومنها النعناع والريحان والزعتر والعطر، لأن ده شغل مطبخ لكنه يحتاج إلي إضاءة كافية من أشعة الشمس. ويشير المهندس جاسر إلي أن هناك أكثر من 02 ألف نوع وفصيلة من الصباريات والمتداول منها في مصر مابين 5 إلي 6 آلاف نوع، مضيفا أنه ينتج 003 نوع منها، أما أشهرها سمعة وصيتا فهي العمم بلونها الذهبي والتي تعيش لحوالي 05 سنة! وهناك إفوربيا وهي فصيلة من فصائل الصبار المستورد وحدث لها إكثار بنجاح وزهرتها مستديمة ل 8 أشهر ولها 11 لونا وتغير زهرتها بمعدل كل أسبوع وتبدأ أسعارها من 01 إلي 07 جنيها.. ولما كانت الزهور تتفتح في فصل الربيع.. فإن المعرض كما يقول المهندس جاسر فرصة للاستمتاع بمشاهدة أكبر عدد من الزهور مختلفة الأشكال والألوان في وقت ومكان واحد.. فهناك حوليات دورة حياتها سنة واحدة تنتهي باختفاء الزهور وتكوين البذور ولذلك هو يقدم من جانبه دعوة لتغيير الجو والابتعاد عن مشاغل الحياة ولو لمدة ساعتين فقط، فمصر بلد زراعية أولا وأخيراً. وأترك المهندس جاسر يضع الأسعار علي أصيصاته في همة ونشاط، وأتجول بين العارضين في صمت وإن كنت أقطعه بين الحين والآخر بسؤال عن الأنواع والأسعار.. وقد لفت نظري أصيص بين الجميع به زهرة عباد الشمس الذي ذكرني بأيام جماعة الزهرات وأنا صغيرة وكنت أمثل زهرة عباد الشمس التي كان لها نشيد لايزال أردده: أنا عابد الشمس المنيرة، حيثما دارت أدورا، أهدت إليّ جمالها، وأنا بنسبتها فخورا فوقفت ألتقط لها صورة وهي تقف شامخة بلونها الأصفر الزاهي. وأثناء سؤالي لأحد العارضين عن أشجار البرتقال والليمون.. وجدت من يقول : عرفت سعرها كام.. فإذا به عاشق الصبار محمد عطية وكان يحمل في يده مائة أصيص صغير في كيس بلاستيك، اشتراها بخمسة عشر جنيها، والذي بدأ يهتم بالزهور والصباريات. منذ حوالي 03 عاما فأخذ ينزل المشاتل ويشتري (الزرعة) بآثنين أو ثلاثة جنيهات ونظرا لعدم الوعي والخبرة كانت تموت منه ويرجع يشتري ثانيا ومرة أخري.. ولكنه بدأ يتجه إلي الصباريات بأشكالها وألوانها البديعة التي تعمر طويلا.. وكان يذهب للمشاتل ويقتني بأسعار معقولة واستطاع إكثارها وعرضها علي أصحاب المشاتل وعنده فوق سطوح العمارة التي يقطنها بالمنيل، أنواع عديدة من الصبار ومنها الأولدمان وهي عبارة عن عود طويل أخضر ينزل من قمته شعر أبيض! ولفت نظري عم محمد عطية إلي أن معرض هذا العام تأخر حوالي الأسبوعين وهذا أخر البهجة كثيرا، موضحا أن سوق الصباريات منتعش لأن كل نباتات الظل غير معمرة وتحتاج لاحتراف عند التعامل معها، إلي جانب ازدهار تجارة أشجار النخيل التي يتراوح سعرها مابين ألف إلي 5 آلاف جنيه للنخلة الواحدة ويقدر سعرها طبقا لطولها وصحة العود وأشهرها نخيل الزاميا الحديدي. وأشار عم محمد عطية إلي أن أغلب زوار المعرض من الفاهمين والعاشقين وهواة التصوير وأصحاب الكاميرات وأنه واحد منهم، جاء إليه ليلقي بهمومه ومتاعبه ومشاكله وسط الزهور، ويأخذ منها الاستقرار والاطمئنان والبهجة والسعادة والاستمتاع، فهناك علاقة أخذ وعطاء بين البشر والطبيعة. ودعاني عم محمد عطية قبل أن أتركه لزيارة مشتله لرؤية صبارته النادرة التي قدرها الهواة والتجار ب 4 آلاف جنيه ولكنه لايريد أن يبيعها إلا بعد أن يأخذ بذرتها من أجل الإنتاج والإكثار.. فهو زرعها وهي في ححجم حبة العنب وأخذ يشاهدها وهي تكبر وتنمو.. حتي بلغ قمة الاستمتاع بها ولايريد أن يتخلي عنها إلا بعد أن يري أولادها، فهي رحلة حياة مع الصبار والصبر.