الأزمة في مصر هذه الأيام أننا أمام فصيلين سياسيين نفد رصيد الثقة بينهما، المعارضة وسلطة الحكم.. الطرف الأول يتربص بالآخر ويسعي لإزاحته من موقعه ويحشد شارعا ليس له أي سيطرة عليه، يحتشد بالغاضبين بسلمية وصولا للفوضويين ومشعلي الحرائق في موجة من العنف منفلت العقال لاتعرفه ولا تتسم به الشخصية المصرية، أما طرف سلطة الحكم فحائر بين اللين والحزم في مواجهة موجات العنف لأسباب عدة، من بينها عدم الربط بين أي ممارسات تبدو أشبه بنفس طريقة النظام القديم في التعامل مع المتظاهرين والارتباك الحادث وتأخر المواجهة مع الأزمات وصعوبة المضي وسط حقل ألغام متمثل في ميراث متخم بالمشاكل والأزمات، كما لا يحكم النظام قبضته علي مفاصل وأركان الدولة خاصة السيادية منها رغم الاتهام الموجه للنظام بسعيه لأخونة الدولة والملاحق به في كل خطواته، وتكمن خطورة موجات العنف المتلاحقة رغم أنها تشكل دوائر محدودة المساحة والتأثير في إمكان اتساع نطاقها بسبب حملات الإعلام من فضائيات وصحف خاصة، وما يقدم فيها من تبرير وذريعة للمزيد من العنف بدعوي المد الثوري أوالعنف المضاد، وهي تعبيرات أطلقتها قوي المعارضة الفترة الماضية، تضيف الكثير من الزيت علي النار المشتعلة وتخرج عن أبسط آليات الممارسة الديمقراطية وحرية التعبير. ولي أن أقول إن العنف بكل أشكاله لابد أن يكون مرفوضا من كافة القوي السياسية، ويجب ألا تعطيه أي غطاء أو مبرر أو مشروعية بأي صورة من الصور، خاصة إذا استهدف الأرواح بداية ثم منشآت الدولة التي يملكها في النهاية الشعب. وأتمني أن تراجع تلك القوي القوانين المنظمة للتظاهر في أعرق الديمقراطيات في العالم وما تمنحه من صلاحيات لقوي الأمن في حالة تجاوز أي متظاهر لسلمية مشاركته.. وبالمناسبة فإن قواعد التظاهر أمام البيت الأبيض مقر الرئاسة الأمريكية (بمناسبة مايحدث حول قصر الاتحادية) أن تقسم مناطق التظاهر لثلاثة أقسام: السلمي ولاغبار عليه وفي حالة الاقتراب أكثر يتاح لقوي الأمن التعامل بالعصي، أما المنطقة الثالثة القريبة من الأسوار ومحاولة الاقتحام فالتعامل فيها بإطلاق النار!! وهناك التصريح الذي صدر عن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في أحداث الشغب العام قبل الماضي »عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي فلا يحدثني أحد عن حقوق الإنسان«!! وحتي لايذهب البعض لتصور أنها دعوة لاستخدام العنف في مواجهة المظاهرات، فإن الثقافة الديمقراطية الراسخة لدي هذه الشعوب أن التظاهر مباح ومتاح ولكن بضوابط عدم الإضرار بالآخرين وبالمنشآت العامة، وأن حدود حريتك تنتهي عند مساحة حرية من يقف بجوارك، ولنتذكر جيدا كيف واجه الأمن الأمريكي تظاهرات واعتصامات تحمل شعار »احتلوا وول ستريت« خريف عام 2011 تأثرا بثورات الربيع احتجاجا علي الفساد المالي في بورصة نيويورك والحروب والاحتباس الحراري وامتدت في عدة عواصم عالمية. أما في جانب مؤسسة الحكم فإن حالة الارتباك وبطء ردود الأفعال وعظم المسئولية الملقاة علي عاتقها من ميراث مبارك والإرباك من جانب الأطراف التي لاتريد لها الاستمرار، فهل من المنطقي إزالة آثار مافعله نظام في ثلاثين عاما عاث في البلاد فسادا وقهرا وإفقارا في شهور، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك العديد من الأطراف في الداخل أو إقليمية ودولية لاتريد وجود الرئاسة الجديدة وما تمثله وتنتمي إليه وماتمثله تلك الأطراف من توجهات معاكسة. لا أفهم أن يدور حوار في مشيخة الأزهر، ويصل لتفاهمات حول وثيقة وضعتها قوي ثورية شبابية لنبذ العنف واعتبار الدماء خطا أحمر، ثم تخرج قوي المعارضة لتعلن في نفس اليوم الدعوة للزحف الثوري نحو قصر الاتحادية، وبعد الأحداث التي تلت الجمعة الماضية تعلن تلك القوي سحب توقيعها علي تلك الوثيقة والدعوة لإسقاط النظام والتشكيك في شرعيته، والمبرر ماحدث للمواطن التي تم سحله عاريا، بل والأغرب أنه بنفس المعيار الخاص بحقوق الإنسان كان ينبغي إدانة ماحدث في التحرير من حالات اغتصاب لفتيات وسيدات وصلت لأكثر من 23 حالة والكثير من حالات التحرش الجنسي، وبنفس المعيار كان ينبغي إدانة أي عمليات إشعال الحرائق بأي منشأة عامة أو خاصة بهيئات أو أحزاب وهو ما لم يحدث؟! المعضلة التي نواجهها أننا أمام حوار طرشان، فلا أحد يسمع الآخر، من هنا لابد من ظهور الطرف الثالث، وهو غير الطرف إياه، لكن يمثله العقلاء والحكماء الذين لن تخلو منهم مصر لكي يلعبوا دورهم في رأب الصدع بين المعارضة والحكم، وأن يجلس الجميع في حوار بلا شروط مسبقة أو إذعان، فليس ذلك بحوار وإنما جلسة لإملاء الشروط من جانب واحد، ويخالف أبسط قواعد الحوار الديمقراطي، أما أن تستمر المعارضة في العناد والتمركز في الفضائيات والمؤتمرات داخل القاعات المغلقة فذلك يسد مسام التواصل بين الطرفين وينسف الجسور بينهما واستمرار دائرة العنف ونزيف الدماء التي أعلنت المعارضة تنصلها من المسئولية وألقتها علي مؤسسة الرئاسة والحكومة وخاصة الداخلية. موجات العنف لن يستفيد منها أي مواطن مصري شريف مخلص لبلده، وهي تصب في صالح فلول النظام من كل الفاسدين الذين استفادوا منه وكل من يتربص بالبلاد في الخارج.. واستمرارها يغلق الآمال في عودة دوران عجلة الاقتصاد فالثورة غير الفوضي، والذين قاموا بالثورة انصرفوا قدر الله وقضائه إلي السماء كشهداء أو عادوا لأعمالهم ثم توالي ظهور من نسبوا لأنفسهم صناعة الثورة وهم أبعد ما يكونون عنها وهم كثيرون!! والخاسر في معارك طواحين الهواء الدائرة هذه الأيام هو المواطن المصري البسيط الذي يعاني من شظف العيش ولايملك ترف السفر للخارج في حال تدهورالأحوال في البلاد، ليترفق من يدعون الثورية بمصر فليس لنا وطن نحبه غيرها!