أنهت ثورتا تونس ومصر مرحلتهما الأولي من الاشتعال الذي يقود لدوران عجلة التغيير في اتجاه بناء نظام جديد لكن مرحلة اقتلاع جذورالنظام القديم وبقاياه يبدو أنها سوف تستغرق وقتا طويلا ، أما الاشتعال فهوعنوان ثورات الشعوب في كل من ليبيا واليمن وسوريا والبقية علي الطريق والتي يتساقط فيها المئات بل وآلاف الشهداء خاصة في الحالة الليبية بصورة أكثر مأساوية من تونس ومصر، لكن العرب أفاقوا من سباتهم العميق الذي طال لعقود طويلة من الزمن فهم تخلصوا بالثورات من الاحتلال الأجنبي ويثورون مرة أخري للتخلص من أنظمة مابعد الاستقلال التي مضت لأبعد مدي في القمع والاستبداد ونهب الموارد والثروات والتدهور الشامل في كل المجالات وضللتهم بشعارات الاستقرار والتنمية الوهمية لكن مع ثورة العالم الإليكترونية والتقدم العلمي المذهل واتساع مدي الرؤية لما خارج الحدود شعر العرب أنهم خارج الزمن وفي اتجاه معاكس للعالم يسيرون بسرعة السلحفاة ليظلوا في مكانهم في مؤخرة ركب الحضارة الإنسانية ، لذا توالت الانفجارات وموجات المد البحري من بقعة لأخري بسيناريوهات ثورية شبه متطابقة تبدأ بالدعوة لإصلاح النظام ثم المطالبة بإسقاطه والحكام واجهوها بنفس الطرق والأخطاء دون أن يتعلموا ممن سبقوهم إلي السقوط !! ثورة الياسمين في تونس التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي أطلقت بعد أيام من انتهاء مرحلتها الأولي شرارة الثورة المصرية التي تابع العالم تفاصيلها لحظة بلحظة حتي حققت أهم أهدافها بتنحي الرئيس مبارك لكن الثورتين تمران بمرحلة أصعب وهي بناء نظام جديد يحقق أهداف وطموحات الشعبين وحتي لاتذهب التضحيات التي بذلت سدي والمرحلة الانتقالية هي الأصعب في تاريخ أي ثورة خاصة إذا كانت بيضاء ولم تدخل في طور استخدام السلاح فالبناء لايتم إلاعلي نفس الأرض التي تتواجد فيها الكيانات والرموز القديمة وخشية الشعب من استمرارها وتأثيرها السلبي علي الثورة من هنا تبدو ملامح القلق والمخاوف من أن يستمر دور تلك الكيانات والشخصيات التي هيمنت طويلا علي المشهد العام لعدة عقود من الزمن ، ولذا تستمر الاحتجاجات في البلدين لتطهير المشهد من هذه الرموز الممثلة للنظام القديم ويبدو الجيش خاصة في النموذج المصري لاعبا رئيسيا في تطورات الأحداث والمطالبات في الحالتين تبدو متقاربة حيث الدعوة لتطهير الإعلام والإدارات الحكومية وحل الحزب الحاكم في النظام القديم ( في الحالة التونسية أصدر القضاء حكما بحل حزب التجمع الدستوري الحاكم وفي مصر مازال قرار حل الحزب الوطني في يد القضاء ) إضافة لحالة عدم الرضا علي الحكومات الانتقالية والبطء في الانتقال لنظام جديد. وفي تونس ستجري في يوليو القادم عملية انتخاب مجلس وطني تأسيسي لوضع دستور للبلاد أما في مصر فستجري انتخابات برلمانية في سبتمبر المقبل يتلوها رئاسية ثم تشكيل هيئة تأسيسية لصياغة دستور جديد ، ويبدو مفهوم الثورة المضادة سائدا لدي قطاعات كبيرة من الشعبين والاستفتاء الذي جري في مصر واتسم بمشاركة غير مسبوقة من جموع الشعب وجاءت نتيجته بالموافقة علي تعديلات الدستور لم يهدأ من مخاوف الذين رفضوا التعديلات خاصة مع طول المدة وتعدد المراحل وصولا لوضع دستور جديد بعد انتخابات البرلمان والرئاسة بينما فضل من وافق علي التعديلات علي المضي بمثل هذه الخطوات تجنبا للفراغ الدستوري ودخول مرحلة الحكم المدني سريعا لكن المخاوف لدي الجانبين المصري والتونسي تتبدي في وجود رموز النظام القديم ودخولها علي خط البناء الجديد ومحاولاتها إحداث شروخ في هذا البناء عبر التآمر علي الثورة كما أن محاكمة رموز الفساد والذين قادوا عمليات قتل المتظاهرين في مصر يبدو ليس كما يريده الكثير من المصريين لتهدئة المشاعر والقصاص العادل ، من هنا يتشارك التونسيون والمصريون في مشاعر القلق في عدم تحقيق التغيير المنشود الذي من أجله قامت الثورتان خاصة أن ذلك يستلزم وقتا طويلا لاستقرارالأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية من هنا تبدو الصورة في مصر وتونس مرشحة للكثير من التوترات والأزمات في الشهور القادمة حتي ظهور دستور جديد في كل من البلدين ثورات تشتعل ليبيا واليمن وسوريا دخلت علي خط تأثيرات المد البحري (تسونامي) زلزالي تونس ومصر لكن لكل حالة منها خصوصياتها وتعقيداتها ، فالنموذج الليبي يبدو الأكثر مأساوية من غيره في عالمنا العربي فثورة هذا الشعب تأتي في مواجهة آلة عسكرية في يد طاغية يأبي أن يترك الحكم بعد أكثر من أربعة عقود من الزمن دون أن يدمر شعبه ويحيل بلده لأرض محروقة وأطلالا والجهد العربي والدولي سياسيا وعسكريا وفرض حظر جوي كان له أثره حتي الآن في إنقاذ هذا الشعب من مصير معروف وهو الإبادة ، وكارثة التدخل الغربي في كل من أفغانستان والعراق كانت بمثابة مكابح لحركة لآلة الغرب العسكرية في تكرار نفس السيناريو علي الأرض الليبية وسوف يكشف النقاب بعد أن تضع الحرب أوزارها عن حجم الدمار والخسائر البشرية المروعة في المواجهة الدامية بين القذافي وشعبه لكن النهاية لمثل هذا النظام الذي سيرحل للأبد وهكذا يصنع الطغاة وستكون نهايتهم ليست أقل مما ارتكبوه من جرائم ، والشعب الليبي سوف يسترد حريته لما قدمه من تضحيات وماعاناه طويلا علي يد هذا الرجل طوال حكمه وعلي يد كتائبه الدموية ومرتزقته! أما في اليمن فتبدو الثورة مرتبطة بعوامل تعقدها من أبرزها التركيبة القبلية التي يجيد النظام استغلالها وتوظيفها للبقاء ومحاولة إجهاض الثورة وقد قدمت الثورة في يوم واحد أكثر من خمسين شهيدا علي يد القناصة وتكرر نفس سيناريو الأجندات الخاصة والقوي الخارجية التي تقف وراء الثوار والشباب المغرر بهم لكن الجديد في اليمن أن الجيش وقف بعض قادته مع الثورة بينما لازالت قياداته العليا تصطف مع علي عبد الله صالح واليمن حالة صارخة في ظروفه المعيشية المتدهورة ومحدودية موارده والشباب أكثر فئات المجتمع تضررا من نتائج هذه الأوضاع لكن النظام يطلق دعاياته المضادة في أن البلاد تواجه خطر القاعدة والانفصاليين والتيارات الدينية كفزاعة لتخويف اليمنيين من الفوضي التي ستسود البلاد إذا سقط النظام وضاع الاستقرار ومع تقديم صالح للعديد من التنازلات فالأمل أن تسفر الوساطات الداخلية والخارجية عن الوصول لاتفاق علي انتقال سلمي للسلطة يجنب اليمن المزيد من إراقة الدماء في بلد تنتشر فيه الأسلحة بين الأفراد والجماعات وينقسم فيه الجيش وتتعارض فيه المصالح بصورة كبيرة في سوريا تبدو الثورة في مراحلها الأولي (المطالبة بإصلاح النظام) لكن العنف مبكر في التعامل مع الاحتجاجات حيث إن نظام بشار الأسد هو وريث لنظام له تاريخه في قمع المعارضة ويمثل أقلية ( العلويون) تتمترس خلف ترسانة أمنية شديدة القسوة في مواجهة أي محاولات لمناهضة النظام ، أما الأجندات فحدث ولاحرج وهنا ينبغي التوقف عند ملاحظة لايمكن تجاوزها وهي أن الأنظمة التي تواجه ثورات هذه الأيام تتقاذف فيما بينها الاتهامات بوجود أجندات فليبيا تتهم دولا عربية أخري بالوقوف وراء الثورة وسوريا تتهم اليمن والأردن تتهم مصر وسوريا والبحرين تتهم لبنان وتحديدا شيعته لكن أحدا لايذكر حقيقة أن الخلل هو في النظام وليس من خارجه والثورة في سوريا مهددة بفصول ساخنة ودموية لايعلم مداها إلا الله !! لكن البحرين حالة خاصة لاينطبق مايحدث فيها علي نماذج الثورة فإيران تتربص بالفعل بهذا البلد وسبق أن صدرت تصريحات من ساستها تشير لاعتبارها جزءا منها كما أن المطالب بإسقاط النظام قفزت فجأة للصدارة دون المرور بالمطالبة بإصلاحه والعنف المستخدم من المتظاهرين اضطرت معه السلطات للاستعانة بقوات درع الجزيرة خشية السيطرة علي السلطة من جانب الشيعة وتحول البحرين لقاعدة ارتكاز إيرانية تهدد باقي بلدان الخليج وفي الجزائر تبدو الأمور مرشحة للتصاعد في ظل الاحتجاجات التي بدأت محدودة ويسهل حصارها بتحديد موعد أسبوعي للسماح بها وفي ظل آلة أمنية تتعامل بعنف مع المتظاهرين ويسعي النظام للهروب للأمام عبر طرح إصلاحات سياسية شاملة بالسعي لإجراء تعديلات علي الدستور وإجراء حوار مجتمعي مع قوي المعارضة لكن المشكلة تكمن في التدهور الحاد في مستويات المعيشة في بلد غني بموارده وثرواته لكن عجلة الفساد دارت دورتها والتهمت هذه الثروات ووصلت لجيوب رجال السلطة ومعدلات البطالة والفقر وصلت لأرقام قياسية مما يؤجج من ثورة الجزائريين التي تبدو علي الأبواب ، أما لبنان فهو حالة فريدة في المنطقة فهو يحكم بصيغة توافق طائفية ويبدو بعيدا عن سيناريو الثورات لكن بعض المظاهرات خرجت علي استحياء بشعار الشعب يريد إسقاط الطائفية السياسية!! مسلسل الثورات الممتد عبر الخريطة العربية أربك حسابات الغرب خاصة أن النظم التي تتساقط هي لأقرب حلفائه والصدام مع هذه الثورات سيضع أنظمة الغرب في وضع حرج أمام شعوبهم خاصة أن مطالب الثوار المتمثلة في الحرية والعدالة والديمقراطية هي قواعد ومباديء حاكمة للحياة السياسية في بلدانه. العرب في حالة ثورة والأنظمة تقاوم محاولات إسقاطها بكل ما أوتيت من قوة لكن الكلمة الأخيرة والفاصلة ستكون للشعوب التي تطالب بحقوقها في العدالة والحياة الكريمة