كنت واقفا وقدماي في النيل بالقاهرة عندما أُعلن فوز أوباما بالولاية الثانية في الولاياتالمتحدةالأمريكية.! لاحاجة لإعادة سؤال كان قد طرحه طه حسين علي نفسه يوما في القاهرة، عندما أوصلوا طفلا ضريرا (ابن التاسعة) للمرة الأولي علي النيل، فوضع يده في الماء متسائلا: (تري ماذا يوجد وراء هذا النيل.؟) سؤالُ ضرير فاقد العيون أبصر به الملايين بمنح العيون.! طه إبن الحسين كان يومذاك بالعين بصيرة واليد قصيرة لاتحمل موبايل الإنترنت بتويتر وفيسبوك، فتحسّس النيل بأنامله واستشفّ من خرير أمواجها، أخبار ما وراء البحار والجبال.! وأنت أيضا يا باراك أوباما يابن الحسين، أتيتنا بالعين بصيرة، اتجهت بعد فوزك بالولاية الأولي مباشرة إلي القاهرة وبغداد وأنقرة، لتستشفّ مافي هذه الأحواض الإسلامية من نبع الحياة للبشرية، ولعلّك طرحت علي نفسك ما طرحه طه حسين (يا تري ماذا يوجد حول أطراف النيل والدجلة والفرات.!).. لكنك يسنياتور مهما كنت بالعين بصيرة، سبتقي باليد قصيرة، لاتحمل للمسلمين والعرب أقلّ مما تريد لهم، وأكثر مما يُراد منك.! أمريكا أرادتك المرة الأولي وهي منقسمة في الخارج عسكريا بين أفغانستان والعراق، وسياسيا بين الصين والآسيان، واليوم للمرة الثانية، وهي مُتجمّدة في الداخل إقتصاديا والعُنُقُ مخنوق في خندق البطالة، وخطابك الأول من القاهرة "إلي المسلمين والعرب" كان يحمل عنوان التقسيم: (المسلمون والعرب)، بينما نحن العرب بالإسلام والمسلمون بالعروبة، والعكس صحيح غير قسما بمعبودك ومعبود أبيك يا إبن الحسين.! وهذا التقسيم بالعنوان والمحتوي، سيُراد منك تطبيقه علينا ضمنيا وإن لم ترده شكليا، أمريكا المُوحّدة بالدويلات والولايات والحضارات والأديان والطقوس والألوان، أرادت (الاتحاد) لنفسها ولاتريده لغيرها خاصة المسلمين والعرب!.. وأرداته إسرائيل لنفسها ولاتريده لغيرها خاصة الفلسطينيين والعرب.! إسرائيل منذ قيامها علي أنقاض الفلسطينيين، تعتبر أي وحدة تقسيمية بين الإسرائيليين نقمة وصاعقة، والتفرقة بين الفلسطينيين خيرا وبركة، أي إنقسام إسرائيلي ذنبٌ مغضوبٌ عليه، لايُغفر ولايُُستغفر، وكل انفصال وإنقسام عربي إسلامي، هبةُ السماء لشعب الله المختار المبتسم الضاحك بجوار الحائط المُبكي.! المسيحيون في الوطن الإسلامي العربي ساروا يراهنون مستبشرين بعودتك للبيت الأبيض، فلا تنسهم، ثم لاتنس جيرانهم المسلمين بكل فئاتهم ومذاهبهم وطبقاتهم تحمّلوا المشقّات وقسوة الحياة لا لذنب إلا لأنهم آمنوا بالله وعبدوه بإياك نبعدوا وإياك نستعين، ذلك المعبود الذي هو معبودك أنت وأبيك الحسين.! الخيل الذي يجُرّك اليوم إلي البيت الأبيض، دعه يجرّك بالسمات المشتركة بالخلائق: (الإيمان بالخالق الرحمن، والرحمة بالخلق المحروم) .. فليكن حصانك هو حصانهم، إن جروح القنابل والقاذورات قد تعالجها الأيام، لكن الجروح النفسية لا يضمّدها الزمن، إن جبّار الأرض عودنا قبلك كلما جلس في البيت الأبيض، أن يحتفل بألف ليلة وليلة مع تل أبيب فوق الجنائز والجثامين، قسما يباشا إنه لمنظرٌ أليم، بآلآم لاتستطيع الأيام ان تمحوها.! فزت يا أوباما، لكن فوزك كان بأياد خفيفة للديمقراطيين، واحتفظ الجمهوريون بأقدام ثقيلة في مجلس الشيوخ (البرلمان)، ويعني ذلك، أنك ستمضي برئاسة صعبة للغاية، والصعوبة الرئاسية هذه يجب أن تدلّك علي أصعب رئاسة في تاريخ العرب هي الرئاسة الفلسطينية، رئيسٌ ظل يعاني طيلة ستين سنة من العدو الداخلي والحرب الداخلية، رئيسٌ لم يتعذب وحده، تتعذب معه زوجته وبناته وأولاده، وشعبه ووطنه، رئيسٌ يتعذب مع رئاسته حزبه ومعارضوه، شعبٌ يجوع علي المائدة الدسمة، يظمأ بجوار النبع العذب، فقراء بؤساء فوق المعادن النفيسة، الأبناء أيتامٌ بجوار الأبوين، البنات عوانس في عمر الزهور، الزوجات أراملٌ جنب الأزواج، هوياتهم بلا أرقام، وأرقامهم كلها أصفار، مواطنون بلا أوطان وهم في ربوع الوطن.! قد تشعر بسعادة غريبة يا أوباما إن ذهبت بدل القاهرة الي فلسطين، والتقيت بشريحة أخري من الفئة المعدومة التي صوّتت لك بأمريكا، لكنها بفلسطين هذه المرة، إحص بنفسك المستوطنات عددها؟ ومواطنون بلا أوطان عددهم؟ وإرفع تقريرا لبابا الفاتيكان بعدد مخيمات بلا أضواء، مطاحن بلا حبوب، مطابخ بلا دقيق ومواقد بلا وقود.! فلتكن سنواتك القادمة، شمعة في ظلام هؤلاء المظلومين المنبوذين .. إذهب الي فلسطين هذه المرة يا إبن الحسين ليس لإلقاء كلمة علي الشعبين العربي والإسلامي من القدس كما فعلتها من القاهرة، وانما لتقارن بنفسك بين الشعبين الأمريكي والفلسطيني: شعبٌ ضاحكٌ أمام المسرح الكوميدي بأفلام الكاوبوي والشموع. وشعبٌ مستنزفٌ للمسلسلات الدرامية بالمآسي والأحزان والدموع. شعبٌ قهقريٌّ قهقهيٌّ بالضحكات والعربدة، والفكاهات بالرسوم الكاريكارتورية الساخرة. وشعبٌ بصفحات الوفيات اليومية، عدد المتوفين غدرا برصاص (إسرائيل) يفوق عدد المستسلمين طوعا لقابض الأرواح (عزرائيل.!)