لا توجد مناسبة للكتابة أو الحديث عن «طه حسين» عميد الأدب العربي، هذه الأيام، فلا هي مناسبة عيد ميلاده أو ذكري رحيله، ولا أي شيء بالمرة!! كل الحكاية أنني قررت أن أعيد قراءة ثلاثية د.طه حسين ورائعته النادرة «الأيام» من جديد، قلبت الدنيا عليها في مكتبتي ولم أجدها! لقد اختفت وسط الأوراق والمجلات والكتب، كان السهل والأسهل أن أشتري نسخة جديدة بدلا من عبث البحث والتدوير عن إبرة في كومة قش التي هي مكتبتي!! وهكذا اشتريت «الأيام» بأجزائها الثلاثة في مجلد واحد يقع في 520 صفحة طبعة مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 1992، لقد انفردت هذه الطبعة بهدية رائعة لم تخطر علي بالي ولم تكن موجودة في طبعات «الأيام» السابقة والتي تعدت الثلاثين طبعة «دار المعارف» الهدية عبارة عن مقدمة كتبها د.طه حسين خصيصاً بمناسبة صدور طبعة من «الأيام» للمكفوفين، وقد حرص د.محمد حسن الزيات زوج ابنة د.طه حسين «وزير الخارجية اللامع» أن ينشرها في مقدمة هذا المجلد الفخم. سطور المقدمة البديعة التي كتبها طه حسين خصيصا للمكفوفين هي أروع درس ليس للمكفوفين فقط ولكن لنا جميعا نحن المبصرين بغير بصيرة، وعيون لا تري!! هذه المقدمة وكما يقول د.محمد حسن الزيات أملاها طه حسين لطبعة «بريل» ولم يسبق نشرها بالحرف العربي قبل الآن، تعود إلي 15 ديسمبر 1954. قرأت المقدمة أكثر من مرة، ومع كل مرة تتسلل إلي روحي وعقلي بلاغة وعظمة درس طه حسين ذلك العبقري الذي كان بحق بصيرة وطن، واستعيد قصيدة الشاعر الكبير «نزار قباني» وعنوانها «حوار ثوري مع طه حسين» وكان قد ألقاها في ذلك الوقت ضمن احتفال مهيب أقامته جامعة الدول العربية احتفالا بطه حسين وشارك فيه نجوم الأدب والشعر في مصر والعالم العربي!! في تلك الأمسية الشعرية النادرة ألقي «نزار قباني» قصيدته التي لا تنسي فقال: ضوء عينيك أم هما نجمتان؟.. كلهم لا يري وأنت تراني! ضوء عينيك أم حوار المرايا.. أم هما طائران يحترقان هل عيون الأديب نهر لهيب.. أم عيون الأديب نهر أغاني آه يا سيدي الذي جعل الليل.. نهاراً والأرض كالمهرجان إرم نظارتيك كي أتملي.. كيف تبكي شواطئ المرجان إرم نظارتيك.. ما أنت أعمي.. إنما نحن جوقة العميان لم يزل ما كتبته يسكر الكون ويجري كالشهد تحت لساني! في كتاب «الأيام» نوع من الرسم.. وفيه التفكير بالألوان! وحدك المبصر الذي كشف النفس.. وأسري في عتمة الوجدان عد إلينا فإن عصرك عصر ذهبي.. ونحن عصر تاني سقط الفكر في النفاق السياسي وصار الأديب كالبهلوان. عد إلينا فإن ما يكتب اليوم.. صغير الرؤي صغير المعاني عد إلينا يا سيدي عد إلينا.. وانتشلنا من قبضة الطوفان إن أقسي الأشياء للنفس ظلماً.. قلم في يد الجبان الجبان!! ولا تتسع المساحة ولا المجال لسرد باقي أبيات قصيدة نزار التي لازلت أحفظها ولا تغادر أبياتها عقلي أو ذاكرتي، والقصيدة ترجمة صادقة وأمينة لحياة ومشوار طه حسين في حياتنا: كفيفاً وعميداً وأديباً ووزيراً ومثقفاً ومفكراً وإنساناً أيضاً. أما مقدمة طه حسين نفسه فهي درس نادر لنا جميعا الآن، وتعالوا نقرأ العميد حيث يقول بصراحة منقطعة النظير وصدق لا مثيل له، وتواضع شديد إنه يقول: هذا حديث أمليته في بعض أوقات الفراغ لم أكن أريد أن يصدر في كتاب يقرؤه الناس، ولعلي لم أكن أريد أن أعيد قراءته بعد املائه، وإنما أمليته لأتخلص باملائه من بعض الهموم الثقال والخواطر المحزنة التي كثيرا ما تعتري الناس بين حين وحين.. وللناس مذاهبهم المختلفة في التخفف من الهموم والتخلص من الأحزان، فمنهم من يتسلي عنها بالقراءة، ومنهم من يتسلي عنها بالرياضة، ومنهم من يتسلي عنها بالاستماع للموسيقي والغناء، ومنهم من يذهب غير هذه المذاهب كلها لينسي نفسه ويفر من حياته الحاضرة وما تثقله به من الأعباء، ولست أدري لماذا رجعت ذات يوم إلي ذكريات الصبا أتحدث بها إلي نفسي لأنسي بهذا الحديث أثقال الشباب! ثم لم أكتف بالتحدث إلي نفسي فيما بيني وبينها، وإنما تحدثت إليها حديثاً مسموعاً، فأمليت هذا الكلام علي صاحبي في رحلة من رحلات الصيف ثم القيته جانباً ونسيته أو كدت أنساه!! ثم طلبت إلي مجلة الهلال في عهدها الماضي طائفة من الأحاديث، وألحت في الطلب حتي لم أجد بداً إلي إجابتها ولم أكن أملك الوقت الذي يتيح لي أن أكتب إليها الأحاديث التي أرادتني عليها. فعرضت هذا الكلام علي الصديق ليقرأه ويشير علي فيه، أيصلح للنشر أم لا يصلح، فقرأه الصديق وأشار علي بألا ألقي إليه بالا، فاعتذرت إلي الهلال ولكنها أبت إلا الالحاح، فدفعت إليها هذا الكلام علي كره مني، وقد نشرته، فرضي عنه بعض الناس ثم جمعه بعض الأصدقاء في سفر واحد، كذلك وجد هذا الكتاب علي غير إرادة مني لوجوده، وما أكثر ما تحدثت بهذا الحديث إلي الذين قرأوا هذا الكلام فمنهم من صدقه ومنهم من أنكر!! تصوروا طه حسين بجلالة قدره يعترف سنة 1954 بأنه كتب ما كتبه لكي يكسر الدنيا أو يرسي دعائم فن كتابة السيرة الذاتية بل كتبه ليسلي نفسه ولم يملأ الدنيا ضجيجاً بروعة ما كتبه والثورة الأسلوبية التي أحدثها. لكن أخطر ما في مقدمة طه حسين التي كتبها خصيصاً للمكفوفين لكنها درس العمر لأمثالي وأمثالك فموعدنا معها الأسبوع القادم.